قال معلمي .. أني أعرف أربي |
انا من اخر جيل كان يقف عندما يمر استاذه او معلمه ويشعر بقشعريرة تسري في جسده لايعرف مصدرها وما سببها , وقتها كان المعلم يملك قدسية تظاهي الأب وقد تفوقها , الى الان اتذكر بعض المدرسين (اتمنى ان يقرأوا كلماتي هذه) ومنهم معلمة في مدرستي الموسيقى والبالية في الصف الثالث كان اسمها “رجاء” كانت تعاملنا كرجال ونساء ونحن في عمر 8 و 9 سنوات , تعلمت تحمل المسؤولية من امي والست رجاء ومواجهة الاخطاء مهما كانت النتائج , ومديرة المدرسة الست راجحة (تقاعدت قبل فترة قليلة) كانت أمراة بمواصفات الرجال , الكثير من الاساتذة قد نسيت اسماءهم لكن لهم مواقف عالقة بذهني ابرزها ان احدهم قال لي وقد كنت مشاغباً “اتوقع ان يكون لك شأن في المستقبل” فضحكت فأردف بالعامية “لتضحك رح ادخل عليك وانت بنص الموظفين وأرزلك والعب بيك طوبة” فأزداد ضحكي وقلت له “ما اخليك تدخل عليه , وأذا دخلت كوه اخابر الشرطة يجون يطلعوك” (في سنوات التسعينات لم يكن للمسؤول حماية حتى استخدم هذا المفهوم واستخدمت الشرطة بدلاً عنهم).
فتغيرت ملامح وجهه وقال متجهماً “اني اعرف أربي” فساد الصمت وتوقف الجميع عن الضحك .. ياربااه جملة هزت كياني وكل الحاضرين , صحيح لم يكن عمري يتعدى 12 عاماً لكن كلامه القى على كاهلي مسؤولية كبيرة , أنه لا يرى نفسه معلماً يؤدي دوره لتعليم الاطفال لقاء اجر بل أب ومربي , زراع للعلم والاخلاق والتربية منتظراً حصاده بعد حين , شعرت برعدة برق سرت في جسدي واكاد اجزم بأن كل الواقفين كانوا مثلي , كلامه عميق جداً بعمق تاريخ العراق كله مغزاه أنه يعرف كيف يربي جيل لايستطيع حتى مجرد التفكير في الاساءة الى من يعطيه العلم ممزوج بالتربية والاخلاق , اخلصوا في اداء دورهم وكادوا يكونوا رُسلاً , فبقي في ذهننا بان من علمني حرفاً صرت له عبداً .
صحيح كل العراقيين اليوم بلا امن او امان ولكن هناك ثوابت يجب المحافظة عليها منها المعلم والقاضي والطبيب والمهندس فهم عماد الدولة , هذا يعلم وذاك يقيم العدل والثالث يعالج والاخير يبني , وحتى لو انهار كل شيء فهؤلاء يجب ان يكونوا في حصانة ومنعة من اي سوء .
هناك مقولة او نظرية قديمة تقول (اذا ارادت ان تهدم حضارة فهناك ثلاث وسائل اولاً هدم الاسرة ثانياً هدم التعليم ثالثاً اسقاط القدوات والرموز) وسائل مجربة في تدمير اي مجتمع , كي تهدم الأسرة يجب تغييب دور الام وجعلها تخجل من دورها كأم و ربة منزل , كي تهدم التعليم يجب تخريب صورة المعلم بأن لايكون له دور في المجتمع وأن يحقر ويقلل من شأنه حتى لايعود يحترمه طلابه.
بل حتى اولاده حتى يخجل من كونه معلماً , كي تهدم الرموز والقدوات يجب الطعن في المفكرين والعلماء والرموز الوطنية والدينية والتقليل من شانهم والدس عليهم والافتراء حتى تشوه صورتهم ولا يعد احد يحترمهم او يقتدي بهم .
وهذا بالضبط ما يجري في العراق اليوم تهديم لصورة الام وتهديم لصورة المعلم وللقدوة والرمز في العراق الجريح , المعلم بلا أمن ولا احترام ولا تقدير , الام والمرأة تهان ويُقلل من شأنها .
والرموز والقدوات حدث ولا حرج .. كيف يمكن ان ياخذ الطلاب العلم ممن لايحترمونه ولا يقيمون له وزن وليس له عندهم تقدير .
|