من دروس الحياة .. الأب كنزٌ والأبن أمانة |
لاشك ان مسؤولية تربية الأبناء مسؤولية مشتركة تقع على عاتق الأب والأم على حد سواء ، وتندرج ضمن تلك المسؤوليات تكوين الجوانب المختلفة لشخصية الأبناء وتحديد سلوكهم واساليب تفكيرهم التي سيواجهون بها طريق حياتهم الطويل .
ولكن غالباً ما يغفل الآباء عن دورهم كموجهين ومرشدين لأبنائهم بذريعة تأمين متطلبات الحياة والبحث عن لقمة العيش ، ونادراً ما تجد آباء يصارعون الصعاب لتوفير سبل الحياة الكريمة للأسرة غير غافلين دورهم الحقيقي في حياة الأبناء ، وأن يمنحك الله أباً مثالياً في سلوكه ونموذجياً في تعامله فأنك ذو حظٌ عظيم وشخصياً قد كنت ذَا حظ عظيم بمعاصرتي أباً واعياً وفاهماً دوره المهم في رسم الخطوط الأساسية لمسار حياة الأسرة وبالتعاون الفعّال والتنسيق المثمر مع أمي التي لا اريد ان أبخسها حقها بما ورد او سيرد في مقالي بحكم ان المقام مناقب الأب الذي كان سبباً في وجودي ومكابد المشقات ومكافح الصعاب منذ بداية حياة الشباب لتكوين الأسرة وتأمين جل احتياجاتها .
وعلى الرغم من تواتر غيابه عن الأسرة على ما يقارب الثلاثين عاماً في الخدمة العسكريّة متشجماً مخاطرها وصامداً وسط صراعات الحياة الرهيبة كان مثالياً في حسه بالمسؤولية ومميزاً وفريداً بطريقته الخاصة في تأمين كل احتياجات الأسرة المادية والفكرية والاجتماعية والعاطفية والنفسية ، وان قوة شخصيته قد أذابت تبعات غيابه ونجح في إرساء منظومة القيم الاجتماعية والاخلاقية الخاصة بالأسرة بانضباط عالِ وضع قواعد التعامل الصحيح التي من شأنها تقوية أواصر المحبة والاحترام بين أفرادها ، ولم تكن قصة أهتمامه ومواكبته اهم لحظات حياتي وتطوراتها في مراحل النمو العمرية تختلف عن باقي أخوتي مُذ كنت رضيعاً فأول اسم نطقت بها شفتايَ بابا … بابا قابلها بالاستمتاع والتصفيق والفخر والاعتزاز ، وزادت متعته حينما رآني احبو مراقباً حركاتي الاولى لحظة بلحظة ثم يمسك يدي المرتجفتين ويشجعني على البدء مرحلة الوقوف مستنداً يديه ومانحاً إياي الثقة والتوازن ، ثم تتشابك أصابع أيادينا مطرب مسامعي بنبرات صوته الحنين تا تا … تاتا فتُحدقُ عيناي بعينيه محركاً أنفِاً ورافعٌاً رأسي تتعثر قدماي تارة واسقط تارة فيلتقطني بطرفة عين خافياً قلقله فأستغل خوفه وقلقه فأتصنع السقوط تلو السقوط حتى تمتزج ضحتكي بابتسامته التي تملأ وجه الطليق ثم يرافقني مغامراتي في استكشاف العالم من حولي بعد استقواء قدماي المشي .ومع بداية عمري الدراسي يكثف تلقيني وصفته التربوية المحكمة بالنظام لترسم لي آفاق المستقبل غير خافِ فرحه وسروره بعامي الدراسي الاول بين أقربائه وجيرانه ، ثم يكمل معي مشواري الدراسي غير متهاون في التوجيه والرعاية ومتابعة الأحوال التعليمية في المنزل وفِي المدرسة من خلال الاساليب التي من شأنها ان تشحذ الهمم لتدعم دافعية الإنجاز مع تواصله المستمر مع المدرسين والإدارة وتسخيره كل الجهود لإيجاد الطريقة المثلى في تحقيق المعدلات المرتفعة للتحصيل الدراسي ، وقد وجدته معي في ضيقي وفي فرحي معلماً وموجهاً في أخطر مراحل النضوج ( المراهقة ) يأمر فيرعب وينهي فيخوف ويبدي رأيه في من أصادق شارحاً ومعللاً وجهة نظره بالمنطق السليم وقد أنهى تلك المرحلة بالشدة والحزم الى جانب الرفق والتسامح . وفي ذات ليلة ارق كنت في مواجهة ليل الشتاء الطويلة وسيل الأفكار تتلاطم بمخيلتي فإذا بصوت يخاطبني مقترباً لم تنم فإجبت قد ن?دّ النوم عن اجفاني فجلس يحاورني حواراً مفتوحاً بما يجول في خواطري ثم روى لي حكاية الأم والأبناء الأربعة (المتسلط ذو السيطرة والجبروت يطلب من الجميع تقديس اوامره ونواهيه ووحده العارف بما يضرهم وما ينفعهم ، والجاهلٌ الشاذ سلوكه العدو لنفسه قبل ان يكون عدو غيره ،والمثقل عليها بطلباته المختلفة دون مراعاة وضعها وحالتها وان لم تلب له يزدريها ويحتقرها ، والبار الذي لا يثير جدالاً او شجاراً في حضرتها سليم السلوك ونبيل الفكر ومحافظ على قيمها وعاداتها وتقاليدها ويلبي نداءها حين تناديه ) وفِي النهاية لكلّ ابنٌ له لا بدّ من عاقبة فمن احسن فقد احسن لنفسه ومن اساء فعليها ، ورغم عقوقهم فهي لهم سكن وإذا ما اشتد بهم الظمأ تسقيهم بيديها ( دجلة والفرات ) وتحثهم على الحب والتعايش والتسامح لتحتضنهم بحنان ترابها وجمال تضاريسها الملونة من الشمال الى الجنوب ، وغالباً ما تكون مضامين واهداف القصص التي يرويها دروساً في القيم الوطنية والإنسانية والاجتماعية التي تساهم في تشكيل شخصية الفرد وتوجيه سلوكه في المجتمع وقد كانت كفيلة للأحتواء ولإنشاء علاقة صداقة حميمة تكسر حواجز الخوف وتؤسس العَلاقة المثلى بين الأب وابنه . ومع بداية الشعور بمعالم الرجولة وظهور ملامحها بدء يصطحبني المناسبات والزيارات الاجتماعية ليمنحني المزيد من الثقة بالنفس وينمي مهاراتي الاجتماعية التي تمكني من تكوين العلاقات الاجتماعية التي تحقق لكل طرف حاجاته ورغباته الإنسانية . وكان نبراسي الذي أنار لي دربي ولم يكن مني ببعيد في اجمل أحلامي الوردية ( الحياة الجامعية ) ممولاً ومرشداًً روحياً أعلى لشخصيتي ، وهو من شاركني سعادتي الغامرة بالراتب الاول من غير ان يشاركني مبلغه وترجم سعادته بمحاضرات عن القواعد الذهبية في التخطيط والتنظيم وحسن الادارة التي أهلتني لاحقاً على الزواج وبناء الأسرة ، وظلت مخيمة في رحاب الذاكرة يديه التي علت الرؤوس تشتبك متعانقة بأيادي أمي وأخوتي بسرور وابتهاج ودموع فرحته تجري على خديه كحبات لؤلؤ منثورة في ليلة زفافي بعد ما أجهد نفسه مبكراً في التخطيط لأنقاذ الأحاسيس والأفكار من التشتت أو الأنجرار لهوى النفس وغرائزها واتخاذه كل الوسائل التي من شأنها ان تقضي على الهواجس المرعبة وترشدني للاختيار السليم بمن تشاركني دخول القفص الذهبي وتحقيق الأهداف السامية المتمثّلة في تكوين أسرة مؤمنة ومستقرة وسعيدة . وبعدما كبرنا وكبرت احلامنا معنا واستقل كل منا بسكنه الخاص ظل في عطائه الذي لا ينضب راعياً وداعماً وسنداًعظيماً واباً عطوفاً تقمصنا شخصيته ونحرص على ان نبدو مشابهين له في مظهره وحركاته وسلوكه بعد وفاته رحمه الله . ويقول الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو : من لا يستطيع أن يقوم بواجب الأبوة، لا يحق له أن يتزوج و ينجب أبناء . |