الأعراب والعروبة... وشرائع التطبيع مع الصهيونية...؟!

 

 

 

 

 

ما عُرف عبر تاريخٍ للاستعمار مديدِ الزمان في بلادنا العربية، هو أن ما حدث في ظل الاستعمار المباشر وجيوشه المتواجدة على أرضنا كان الهدف منه إدامة الوجود الاستعماري لأطول فترة ممكنة، وما حدث بعد خروج هذا الأخير من بلادنا العربية كان هدفه محاولات العودة إلى تجريف ثرواتنا بأشكال ما أطلق عليه النيوكوليناليزم (الاستعمار الجديد)، وفي الحالتين لم نكن نحن العرب في أي أجندة لديه مما يعني أحوالنا وحق تقرير مصيرنا، وخصوصيتنا في اختيار نظمنا السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، فكل هذا ليس مما يُفرد لنا، أو يتم الاعتراف لنا فيه.‏

وفي أي تحليل تاريخي، اجتماعي، سيكولوجي سنجد أن العرب يجب أن يظلوا مغرّبين عن قضاياهم، بل يجب أن لا يعوها، ولا يُتركوا لكي يعوها بأساليبهم الذاتية الوطنية، أو القومية من منظور أن الوعي هو خطوة التجاوز المطلوبة، والأولى باتجاه الخروج من السُّبات العربي المفترض، ومن ارتهان الإرادة المفروضة. وما يبقى من غرائب ما وقع به العرب، ويقعون حتى اليوم هو أنهم لم يحققوا وقفة مراجعة واحدة لأحوال الأمة حتى يصلوا إلى سببيّات ما هم عليه، وأسباب الخروج منه، ومن المعروف لدى المرتبطين حياة، وروحاً، ومصيراً بالدوائر الاستعمارية (الأمروصهيوأوروبية) أنهم لا يملكون ما هو حق تاريخي لهم، ولا يحبّون هم أن يملكوه حتى يكونوا باستمرار عند حسن الظن لأسيادهم الغربيين، وحتى يوفروا وسائط الدوام لعروشهم المستعارة.

ووفق هذا الديدن التاريخي وُضع العرب، وتوضعوا على أنهم لا يملكون من أمرهم شيئاً لا ما تعطيه لهم الدوائر التابعين لها، ولو أدى هذا الحال إلى فقدان مقومات السيادة، وقيم الاستقلال، وحرية الخيارات، ونمط الحكم.‏ فبعد قرن ونيف من يقظة العرب وشعورهم القومي الذي خبا أو غفا لحين من الزمن بفعل عوامل كثيرة...

كيف تبدو الأحوال العربية الآن...؟! وهل تراجعت العروبة إلى الوراء...؟! ولماذا يحدث ما يحدث الآن...؟! أهي العلة في الفكر القومي العربي أم أدوات التنفيذ؟ أم هي عوامل موضوعية أم خارجية...؟ ما الذي يجعلنا ننكص بعد قرن ونيف... لماذا تزداد حدة القطرية والانكفاء أحياناً إلى حيز طائفي وعشائري وقبلي...؟! أليست العروبة تراثاً وحضارة ومشروعاً مستقبلياً...؟!

من أين جئنا اليوم، في هذا الزمن العربي الأسود ببدعة الربيع العربي، وكيف خدعنا أنفسنا كل هذه السنوات، وتوهمنا أن لون الدماء التي سالت في شوارع العرب غرباً وشرقاً هو اللون الأخضر، الذي يجلل الثورات بالغار، ويحيي يباسها في كل الحقول، كيف استسلمنا لهذه الكذبة الفاقعة، ورمينا بقلوبنا على أقدام شبح غامض يضرم النار في معدن العرب تحت جنح الليل، كي نتبين في الصباح أنه مشعوذ يرتدي عباءة من الحرير، ليخدع أبصارنا بصورة قادمة من بطون التاريخ تتصل برمز انتمائنا العربي، ثم نكتشف أنه سليل ماسونية خفية، تدرب في معاهد الصهيونية النقية، وخلع عليه ''برنار ليفي'' وسام البراءة من العرب والعروبة، وأدخله المحافظون الجدد في جمعهم العنصري، وأرسلوه إلينا بلسان فصيح نبياً لثورات العرب، وراعياً ليقظتهم الكاذبة التي تشبه ساعة النزع الأخير!؟

 فلم تعد بعض الظواهر السياسية المنتشرة هنا وهناك على الجغرافية العربية تثير الأسئلة والاستغراب فقط، وإنما أصبحت تحتم علينا التذكير بمسلمات وبديهيات يبدو أن معانيها ومفاهيمها إلتبست على بعض العرب منذ بداية موسم الهجرة إلى ''الليبيراليات'' الجديدة ودخولهم عصر ''الديمقراطية الصهيو أمريكية''. لقد كنا لأمس قريب نخال أن تلك البديهيات من الحقائق التي لا تحتاج إلى تذكير أو تفعيل، ولا يمكن القفز عليها أو تحريفها أو تزييفها تحت أي ذريعة كانت بل هي من أبجديات كل فعل سياسي وطني أصيل. ولا شك أن في مقدمة هذه الحقائق أنه لا شيء يثمر خارج تربة الأوطان، ولا مستقبل لمشروع أو مقاربة سياسية تستعير مصادرها ومفردات مضامينها وآليات تنفيذها من خارج بيئتها وحدودها أو تستمد عوامل ''قوتها'' المزعومة و''شرعيتها'' الموهومة من وراء البحار. ولكن يبدو أنه زمن استعارة الجلود واستبدالها كما تستبدل ربطات العنق، وصار بالإمكان الانقلاب على القناعات والدوس على الثوابت حتى الوطنية أو العربية منها دون حياء...

 إنه زمن أصبحت فيه مفاهيم الوطنية والسيادة والكرامة في قاموس عربان النفط من المفاهيم البالية، ويُنعت كل من يستخدمها أو يرفعها خطاً أحمر لا يجوز تجاوزه بالمتخلف ومن أصحاب اللغة والمواقف الخشبية... وأنه في قطيعة مع عصر المفاهيم الرخوة والزئبقية التي استوردوها.

 نعم، لقد تحولت مشيخات النفط إلى دُمل متورمة على خارطتنا العربية وهي ترفع يافطات تناقض جوهرياً المهام التي أوكلتها لنفسها، بل وتدعي احتكار تمثيلها والناطق الرسمي الأوحد بإسمها، متعامية على حقيقة ماثلة أمامنا تتعدد شواهدها في ساحاتنا العربية النازفة، حقيقة تقول أن الاستقواء بالأجنبي واللهاث وراء عونه والاستئساد على الأوطان ببوارجه ودباباته إنما هي من عوامل التعقيد لأوضاعنا وأيسر المسالك لتفكك نسيج مجتمعاتنا وبالتالي أقصر البوابات للهيمنة ومصادرة قرارنا السيادي وإجهاض تطلعات شعوبنا المشروعة في الحرية والرفاه والكرامة. والأغرب من كل هذا أن أعراب النفط لم تدرك بعد، رغم المآسي والكوارث التي تسببوا فيها، أنهم بسلوكاتهم تلك أصبحوا عنواناً من عناوين اعتلال الأوطان وجزءاً من المشاكل القائمة لا من الحلول التي تنشدها المجتمعات العربية لتجاوز مأزقها وأزماتها الراهنة.

 اِنها حالة شاذة وغير مسبوقة في التاريخ العربي المعاصر... حالة مزرية من الفوضى والضياع والانحطاط والدونية السياسية التي لم تجند لفضيلة التضامن العربي لحساب الفراغ العدمي القاتل فحسب، بل أيضاً لحساب فعل التواطؤ، وقوة التآمر، وخطيئة الاستقواء بالمستعمر الأجنبي على الشقيق العربي، وجرائم التورط في تشجيع وتمويل الانقسامات والمواجهات الجغرافية والديموغرافية داخل الاقطار العربية، وفقاً للحزازات الطائفية والعشائرية والجهوية والعرقية.

 

أنظروا ما أشد أحقاد حكام مشيخات النفط على بعضهم بعضاً، وما أفدح خلافاتهم ومنافساتهم وحساسياتهم، وما أسود قلوبهم ونفوسهم ودخائلهم، وما أقبح قبلاتهم وحفلات تبويس اللحى أمام عدسات التلفزيون فيما هم يخبئون الخناجر المسنونة خلف ظهورهم، وتحت عباءاتهم المذهبة والمقصبة، استعداداً لغرسها في صدر أي واحد منهم تصيبه مصيبة، أو تنتابه حالة ضعف، أو تدور عليه الدوائر.

أنظروا ما أقل وفاقهم واتفاقهم، وما أندر مشاعر الإخاء والوفاء في صدورهم، وما أبعد المسافات بين أقوالهم وأفعالهم... فهم في واقع الأمر كذبة وجهلة وقتلة وخونة لا يحفظون عهداً ولا ذمة، وهم فاسدون ومستبدون وأقرب إلى أصحاب المزارع وشيوخ القبائل، منهم الى قادة الدول ورجال السياسة ورموز الأوطان وفرسان المشاريع التنموية والتحررية.

ولعل من أبرز فضائل الثورات الشعبية التي أسقطت حتى الآن حكام مصر وتونس وليبيا، أنها قد فضحت هؤلاء الحكام الأصنام، وعرتهم حتى من ورقة التوت، وأثبتت أنهم ليسوا أكثر من جهلة يدعون الحكمة، ولصوص ينتمون الى حزب علي بابا، ومتسلطين يحكمون من خارج الدستور والقانون، وعشائريين يستبيحون مقدرات الأوطان لحساب أنجالهم وأخوانهم ونسائهم وأزلامهم. وإذا كانت كل هذه البلاوي قد تكشفت لدى أولئك الحكام الثلاثة المخلوعين، فماذا يخبئ للحكام العجزة الذين مازالوا يتربعون على أرائك السلطان؟ وأية مخازٍ سوف تتفضح عندما تصل الثورات الشعبية الى ديناصورات مشيخات النفط وأصحاب خزائن قارون الخليجية؟ وماذا ستقول فضائيات العهر الإعلامي إياها حين يتهاوى سلاطين التخلف والأمية والرجعية الوهابية الذين اعتقلوا شعوبهم في أقبية العصور الوسطى؟

فالوقت يأكل بعضه، والزمن الفاعل لا يمرّ من هنا، وحين قرّر العرب الخروج عن صمتهم وعجزهم، إلى مغفرتهم وفاعليتهم ونهضتهم، ليدخلوا عنف الواقع عملياً، وقد ارتسم في جاهلية مستبدة، وإدارة تغيير خارجية، ليست مستنبتة في رحم الأرض هنا، لسوقهم إلى حاضرهم ومستقبلهم، ليس كما قبل حراكهم وصدمتهم، الصدمة التي تؤسّس لمرحلة جديدة، فتعيد إنتاج الوعي السياسي والجمعي، لما بعد الصدمات القادمة والمتتالية، ولأنّ الصدمة التي تهز ساحاتهم، نتاج مفهوم سلوكي، متمركز في صلب الثقافة والسياسة الغربية، الأمريكية والأوروبية، والتي تظهر في صيغة الكارثة السياسية أو الاقتصادية، أو العسكرية، لتنجز الممكن الذي كان من المستحيل إنجازه أو قبوله...

وتأخذ الجغرافيا التي حملت تاريخاً ووجعاً، فقاومت ومانعت، لتعيد تأهيلها كما ينبغي رخوة وهشّة، فيصبح الانقلاب على الشأن العام، ومقايضته بالخاص متاحاً، فينسحب المجال العام للدولة من التداول والتناول، على مستوى الحضور في حياة الأفراد والمجتمع، فيتقدّم مزاج الخاص (مرّة كان طفيلياً، ومرّة كان ليبرالياً يمتصّ دم الاقتصاد والمجتمع، واليوم سلفياً وهابيّاً تكفيرياً) لتنظيف المكان، من الوجوه المغبرّة وطنياً، فيرتسم الواقع، كما لوحة سريالية للعنف وأطماع الرأسمال السياسي، وارتزاق لمعارضة على موائد الغرب، في الغارات المنظمة على الدولة، وشأنها الأمني وشرعيتها، لتطيح بها إستراتيجية رأس المال العابر للحدود والجماعات والمصالح، فتؤخذ الإصلاحات التي كانت ملكاً للمجتمع، في السياسة والديمقراطية، لتنهر على وقع البناء الجديد، (العراق بالأمس، وليبيا اليوم، وسورية واليمن ومصر غداً…)، فلا يبقى للدولة غير الحماية والحدود وتشريع تنافسية الأسواق والاحتكار.

 

 

إنها المسافة الخطرة والوعرة تلك الواقعة ما بين ميدان الجريمة الراهن والأهداف المنوطة بالمشروع الاستعماري الكبير وهي مساحة مشوشة ومفعمة بالتناقضات وقد تدفقت إليها تداخلات مركبة صار الأبيض بموجبها أسود، وتحول القتل وسفك الدم الحرام فيها إلى جهاد وأصبح العدو الغربي الصهيوني في مساراتها صديقاً وشقيقاً وحليفاً، واتخذ المتخلف فيها موقع التوجيه والقيادة وكأنما هو يسوس ويسوق قطيعاً من الإبل أو الغنم، هي المسافة العقدة حقاً وحقيقة وما دامت بلا قواعد فكرية وبدون محددات أخلاقية فهي تصلح كما هو الحال لأمرين متلازمين للكذب من جهة وللجريمة المنظمة من جهة أخرى وفي تفرعات هذين الأمرين تتوضع بصورة واقعية المواقف القادمة من الموت والذاهبة إلى الموت.

فالأمريكيون يبحثون عن مصالحهم وينفذون برامجهم وأفكارهم ومشاريعهم، وكذلك يفعل الإسرائيليون مستفيدين من كل شيء. أما العرب فيقفون مذهولين ضائعين مذعورين قلقين مسلّمين أن لا حول إلا بمزيد من الارتباط بالأمريكيين. والأمريكيون كلما احتضنوا هؤلاء، أظهروا في تصرفاتهم وكأنهم يحتضنون مادة كريهة مسمومة بشعة، لابد في وقت معين من التخلص منها ورميها وتدميرها، وكل التجارب السابقة قد أكدت ذلك.

فمعظم النظام الرسمي العربي يقف في بؤرة عري تاريخي لم يسبق له مثيل. وربما لم يشهد التاريخ المعاصر هذا القدر من التبعثر وانعدام الوزن والمكانة السياسية، وهو يبدو اليوم مستسلماً للقوى الغربية والمخطط الصهيوني تحركه في اتجاهاتها. وبهذا المعنى، المشروع الأمريكي: الشرق أوسطي والإصلاحات الديمقراطية المعولمة، لا تعني غير الشر الموجه للأمة ''ليل ونهار'' بقفازات حريرية وألوان زاهية، تخفي حقيقة رغبة الإدارة الأمريكية التدخل في الشأن الداخلي العربي و الإسلامي، وإعادة التجزئة ورسم خرائط وكيانات جديدة تنسج رؤيتها العقيدية ومصالحها الاستراتيجية ''من وجهة نظرها''.

 فسقف المطالب الأمريكية والصهيونية ترتفع أمام العرب يومياً، في حين تبدو الجامعة العربية كلها مشلولة، جامعة حكم عليها قادة النفط والغاز بالمتاهة والغيبوبة أي بالمتاهة الشاملة، عن حل الأزمات العربية. ويقول بعض المحللين: مثل هذه الجامعة أفضل لها أن تبقى غائبة، حتى لا تعود إلى قرارات ترحل أو تحفظ في الملفات، ولئلا تكون عبئاً يعمق الأزمات بالجملة بدل المفرق.

ويكاد المختصون والمراقبون في سائر الأقطار العربية، يجمعون على أن ''النظام العربي'' في حالة وهن وتفكك شديدين، بل هناك من يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك في نعي ''النظام العربي'' والسير في جنازته إلى حالة الاضمحلال. وهذا ليس بجديد، فالأنظمة العربية لم تنجح يوماً في حل أي أزمة سياسية واجهت المنطقة طوال العقود الماضية بمعزل عن التدخل الغربي ومشاريعه، وذلك لسببين: الأول، عجزها عن إيجاد حلول عربية تحافظ من خلالها على المصالح الوطنية للدول العربية وسيادتها وعلى المصالح القومية، نتيجة افتقارها سيادة القرار ووطنيته، ومثالنا على ذلك جدار المقاطعة للكيان الصهيوني الذي تحطم على مدى السنوات الأخيرة رغم ما يسببه ذلك من ضرر على القضية الفلسطينية، وكذلك الموقف مما حدث في مصر وتونس، إذ حافظت تلك الأنظمة على صمتها حتى خرجت واشنطن بموقف واضح وجلي منها.

 

 أما السبب الثاني فيكمن في ارتباط مصالحها مع المصالح الغربية وخروجها من دائرة المصالح القومية العربية. ففي هذا الزمن العربي الأسود الذي بلغنا فيه قرارة الهاوية، من كان يصدق أن مشيخة قطر المحمية المجهرية على ساحل الخليج، تختبىء تحت إبط قاعدة حربية أمريكية، يمكن أن تتصدى لكتابة تاريخ العرب الجديد بمداد النفط والغاز، وتتطوع لتروج خديعة جديدة في عقول العرب، تنسيهم خديعة لورانس العرب وكل الاستحقاقات المرّة التي حصدوها من قمح ''الشريف حسين'' وثورته العربية الكبرى، ومن كان يصدق أن شيوخ هذه المحمية البطرة سوف يطلقون خيولهم في موكب الناتو للسطو على ليبيا واليوم يعاد نفس السيناريو لتقسيم سورية، ويشدون قاهرة المعز من أذنها كي توقع على قراراتهم الجاهزة في محفل عربي عليل كان يدعى جامعة الدول العربية.

 هو الزمن العربي الأسود، الذي عليك فيه أن تصدق كل الأكاذيب الفاقعة، وتطرد من وعيك كل الحقائق الناصعة، وأن تقتنع أن هذا المشهد الكاريكاتوري الذي تتداوله أيامنا الحاضرة من مسرح إلى آخر، هو حصة العرب الوحيدة من دنياهم، مشعوذون بلباس القادة، وثورات ملثمة لا تكتمل طهارتها إلا بقذائف حلف الأطلسي، وقرارات استراتيجية كبرى يستقبلها العرب على هواتفهم الجوالة رسائل نصية من مكتب ''جيفري فيلتمان'' في واشنطن، لتقرير مصير أمة مليئة بالدول المختبئة خلف علامات الاستفهام!

 

 والمعركة الحاسمة بين الوجود والفناء والموجات، تداهم الميدان العربي بأنواع من التحريض ومن الإغراء الهمجي، الذي لا يتوقف ولا ينضب، والذي تستثمر في تغذيته موارد غزيرة أيضاً لا تتوقف ولا تنضب، ومنها المال الخليجي ومنها البشر ومنها الخطاب الديني الإسلامي الذي اعتمد أن يفرغ الإسلام العادل من مضمونه، ويطلقه إدعاءات مزيفة في أكبر معركة لتشويه الحقائق وافتعالات الصراعات المجانية، حتى ولو أدى ذلك إلى تدمير البيت على ساكنه، أو إلى وضع الإنسان العربي في مواجهة أخيه الإنسان العربي، يشوهه ثم يرديه قتيلاً، ثم يقول ها أنا قادم من الحرية إلى الحوريات العين في الجنة الموعودة.

 

إنها أكبر معركة في التاريخ البشري المعاصر تشهد هذا الأفق من التزوير وهذا المدى من سفك الدم العربي الحرام. إنهم في المحصلة يريدون خلق إنسان ميت سلفاً أو في طريقه إلى الموت ويحاولون في ذلك أن يطلقوا قناعات بأن هذه الأوطان الخارجة عن الطوق الإسرائيلي، لا تصلح للحياة ولا للحضارة ولا للاستقرار، وعلى المواطن المنتمي إليها أن يختار ما بين موت قابع للتو وراء الباب أو موت آخر بطريقة الرحيل عن الوطن كله واستلام وجبات المهانة والذل بحجة أن الحياة مع الذل هي أفضل من الموت مع الكرامة.

 

وعلى وقع انسداد الأفق وغياب الحلول المنطقيّة، تتقدّم السياسات الغربية في انتهازيتها وفاشيتها، كما لو أنّ الدولة تعجز عن سداد الالتزامات تجاه المجتمع، فالأزمة تخلق الحلول قسراً، وكما تجرى الصفقات في السياسة، فيحتدم الاقتتال بين الليبرالين والعلمانيين والثورجيين والمتأسلمين، على خطف الإدارة والحكم والسلطة والمجتمع، كذلك في الاقتصاد، يحضر الصندوق الدولي على مائدة الابتزاز والتفاوض والقروض (صندوق النقد الذي أعلن استعداده دعم التحوّلات في دول الربيع العربي، لكن تحت شرط إقامة علاقات مع إسرائيل)، وتسليم إدارة الاقتصاد لحفنة المتأسلمين الجدد، والحلول القادمة قسراً على ساحات التغيير، فيسلّم الواقع استبداده واستقراره، ليخرج العرب من التاريخ، فيتقدّم الرجل الأبيض الاستعماري، الذي يحرس الصفقات والمفاوضات (أمريكا تدير التفاوض مع الإخوان، وقطر والسعودية تموّل وترعى، وتركيا تقدّم النموذج والدعم) فلا يبقى غير كفّ يد الدولة عن الانسياق في الشأن السياسي خارج حدودها، لتغرق في المستنقع العنفي والإجتماعي، وعلى وقع إعادة إنتاج الواقع الذي يتأزّم، تنكفئ الدولة إلى تفكيكها وتجزئتها وحضيضها وجاهليتها، فلا يعود سقفها أكبر من حفظ وحدتها، ووقف تمزيق جغرافيتها إلى طوائف ومحميات (لبنان نموذج قديم، الصومال والسودان نماذج واقعية، اليمن وليبيا وسورية نماذج تحت الطلب)، فتسلّم مفاتيح الاقتصاد إلى تجار الأزمات والحروب والصفقات، لتعلّق مشانق القطاع الحكومي، وتتلاشى الدولة اقتصادياً واجتماعياً، فيسهل ابتزازها سياسياً، إذ ينبغي أن تنتج حالة الهلع العام والفوضى الاجتماعية، واندحار الدولة وتفتيتها، فرصة ذهبيّة للتغيير.

 

فالمآسي العظيمة والكوارث الرهيبة، تولد حالات نادرة، لإعادة صياغة المجتمع والجغرافيا، كما ترغب السياسات النيوليبرالية: أليست مفارقة تاريخيّة أن يلتقي اليوم الإخوان والقاعدة وأمريكا وإسرائيل، على دعم وتبني عنف المعارضة ضد الأنظمة العربية المشاكسة...؟

 

العروبة اليوم تُستهدف في معقلها التاريخي، دمشق، من خلال حرب إرهابية شرسة يقودها التحالف الغربي التركي الرجعي العربي لإسقاط الدولة السورية وتقسيمها. وتُستهدف في الوطن العربي عموماً من خلال إذكاء كل ما يناقضها ويعاديها من نزعات طائفية ومذهبية وقبلية وعشائرية مدمّرة.
وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الخطأ الاستراتيجي الفادح الذي ترتكبه القوى السياسية التي تطرح مشاريعها ضدّ العروبة ولا سيما المشروع ''الإسلامي السياسي'' والمشروع ''القطري'' وغيرهما. ذلك أن العروبة ليست أيديولوجية ولا طرفاً في حلبة الصراع السياسي على السلطة، بل هي هويّة ثقافية وسياسية، وهي التي حملت الإسلام، تاريخياً إلى العالم، وهي التي حررت الوطن العربي من الاستعمار وحمت الدولة القطرية من خطر الانقسامات الإثنية والطائفية والمذهبية وغيرها.

 

أليست الأسئلة الصعبة والمعاندة، التي تقفز اليوم في وجه الليبراليين والإسلاميين والعلمانيين والعسكر، في الميادين والساحات العربية (ميدان التحرير بالقاهرة نموذجاً)، هي ذاتها تلك التي لم تطرح قبل مئات السنين، لتتمّ الإجابة عنها، فالقطع معها، والبناء عليها؟...

 

فلم تَكُ ثورة 25 يناير في مصرَ سوى طبلٍ كبيرٍ، دوي من دون مضمون، فتهاوت أرضُ الكِنانة، بالمقاييسِ السياسيةِ كلِّها، لِيُفَصِّلَ لها الغربُ جلباباً على مقاسِ أطماعه، و يعزلَ مصر عن شقيقتها سورية. البلدان اللذان تَبَنيا العروبة. و يترأَّسُ مصرَ اليوم واحد من الإخوان المسلمين، و بعد مصر، تقسيم السودان والمسرحيات الهزلية في تونس وليبيا واليمن، ألفها شياطين الدولار، مُحدثين جروحاً في الجسدِ العربي، لا نعلمُ متى تندمل، وأنظمة لا علاقةَ لها بالعروبةِ التي نشأنا عليها. أنظمة ذات نسيجٍ مُوَحَّدٍ خالٍ من مفاهيمِ الدولةِ الحديثةِ التي تُنادي بالديمقراطية. أنظمة وهّابية، لحمتها القاعدة و سدنتها الإخوان المسلمون، سياستها القتلُ و الذبحُ و تكفير الذين آمنوا بالله و كتبه و رُسُلِه.

هي الردة إذاً، ولا أثر للثورة في المشهد العربي والردة والرجعية متلازمتان الأمر الذي يفسر لنا ولكل من يريد أن يفهم اعتلاء ملوك وشيوخ النفط المعممين بالجهل مقعد القيادة في قاطرة هذه الردة العربية السوداء يبيعون في سوقها ويشترون ويدمرون كل قواعد وأسس التقدم ويبذرون أموالهم في مشروع استثماري سياسي يعتقدون أنه سوف يفتح لهم أبواب النعيم.

فهل فاتت الفرصة الذهبية على العرب وانحدروا نحو القرون الوسطى من جديد أم إن إرهاصات ما حدث لم تنته بعد والفعل الثوري يستطيع أن يصحح مساره مرة أخرى ويجترح المعجزة التي تبدو اليوم صعبة المنال!؟‏

ولذلك يتساءل المرء بمرارة كيف ستقرأ الأجيال العربية تاريخها المعاصر، وهل سيكون أمام الطلاب والباحثين مؤلفات ومؤلفين ومؤسسات صادقة وموضوعية علمياً وتاريخياً وواقعياً؟ وكذلك الحال في المؤسسات الأكاديمية والمعرفية في الشرق والغرب التي تُعنى بتاريخنا وواقعنا؟

لا شك في أن وسائل الإعلام التحريضي الرخيصة، والتي تعمل على تزوير الحقائق بدعم مركزي غربي استعماري، ورجعي عربي ستكون من أهم المصادر التي ستضع الحقائق مشوّهة ومسيّسة، وهذا مما مزّق وسيمزّق الوعي والشعور الجمعي العربي والإسلامي، ويفتت الوحدة والتاريخ والمصير، ولاسيما أن المشروع القومي صار هباء منثوراً، وبدأ يتقدم مكانه الإسلام السياسي المدعوم نفطياً وأطلسياً.

أمام هذا الواقع يخفت الآن الصوت العربي والإسلامي الحر، ويضعف نشاط القوى الوطنية والعربية والإسلامية التقدمية. يضعف صوت الشارع العربي والمثقف العروبي واليساري والليبرالي تجاه هذا المد الكاسح لمشيخات البترودولار التي خرست لفترة طويلة حقق خلالها الوعي القومي منجزات ساطعة في تاريخنا المعاصر، ولاسيما في فترات نضال حركات الاستقلال والتحرر الوطني العربية ضد الرجعية والاستعمار الغربي.

هذا الضعف والخفوت مرحلي وسنلحظ ولا شك في وقت قريب حراكاً فكرياً وشعبياً مندّداً بالمنجز الرجعي الأطلسي، ولاسيما أن القوى المتأسلمة التي وصلت إلى السلطة في بعض البلدان العربية تجابه مجدداً ضغطاً جهادياً إسلامياً مقلقاً يجدّد التضرّر والصدام المجتمعي والسياسي والأخلاقي والديني في كل يوم وفي بقاع عديدة من مشرق الأمة ومغربها، ما سيجعل الاستقرار والديمقراطية وهماً يقض المضاجع باستمرار.

وعليه فإن استهداف العروبة لا يقف كما يتصوّر البعض عند منع تحرير فلسطين والوحدة العربية، بل يذهب أبعد من ذلك، إلى ضرب الدولة القطرية ذاتها وتوظيف الايديولوجيات بما فيها ايديولوجية ''الإسلام السياسي'' في خدمة المشروع الأمريكي الصهيوني.

 في هذا الزمن العربي الأسود، نسأل عن العروبة، ماذا تعني غير صفات النفط والغاز، وشرائع التطبيع مع أحفاد هرتزل، وختم الملف الفلسطيني بالشمع الأحمر وتسجيله ضد مجهول، والعرب بل عروبة ماذا تعني غير ترسانات القواعد الحربية الأمريكية التي تنتشر من خليج إلى محيط، وقاطرات الاحتلال التي يمتطيها المشعوذون العرب وهي تجول بين العواصم كرياح السموم.