انتفاضة العراق في ذكراها الخامسة ( الحلقة الرابعة ) مَن كان وراء الانتفاضة ؟

 

العراق تايمز: كتب النائب فائق الشيخ علي

من صحيفة " الحياة " اللندنية ، عدد 12083 الصادر في الإثنين 25 آذار ( مارس ) 19966 م

على رغم عراقية الانتفاضة هناك مَنْ يتساءل عن الطرف الذي يقف وراءها ؟!
 فهناك من نظر إليها من أكثر من زاوية ، فقسمها إلى انتفاضتي شيعة وأكراد ، وأحيانا عرب وسُنّة ، أو شمال وجنوب ، وأوعز كل واحدة إلى جهة معينة تختلف عن الأخرى . 
 وهناك من تعامل معها على أنها انتفاضة واحدة ، وادعى بأن هذه الدولة أو هذه الجهة كانت الدافعة لقيامها .. إلا أن هؤلاء نسوا أو تناسوا أن انتفاضة بهذا الحجم ( اجتاحت 14 محافظة عراقية من مجموع 18 ) ليس باستطاعة أية دولة أو جهة تحريكها ، ما لم تكن هناك عوامل كثيرة تحرض على هذا التحرك الكبير .
 وإذا كانت بعض الإجابات قد وجد طريقه إلى النشر والإعلان ، فإن اجابات أخرى ظل عراقيون يتهامسون بها في مجالسهم الخاصة ، من دون أن يتجرأ احد منهم على البوح بها .. مثل القول : أن النظام هو الذي فجرها . لهذا نرى أن نبدأ الحديث عن هذه الأقوال أولا ، قبل أن نتطرق إلى غيرها ، لأن القول : أن صدام حسين كان وراء الانتفاضة يُعَدُّ من أخطر النظريات التي قيلت بهذا الشأن ، ولا يستبعد أن يروّج لهذا القول في كتب التاريخ مستقبلا .

أهم النظريات التي قيلت في هذا الصدد :

أولا : صدام حسين وراء الانتفاضة :

يرى القائلون بهذه النظرية : أن النظام العراقي هو الذي حرّض شعبه وسهّل له مهمة قيامه بالانتفاضة ضده ، ذلك من خلال توزيعه السلاح على العراقيين خلال أزمة الكويت من دون ضوابط واعتبارات ، وهو يعلم بأن الشعب يتحيّن الفرص للانقضاض عليه ، بعد كل الجرائم التي ارتكبها بحقه . أما الغايات التي أراد النظام تحقيقها فهي عديدة ، ويمكن تلخيص أهمها بالآتي :
11 – ان النظام أراد منها أن يكشف معارضيه الحقيقيين ، ليشنّ حملة تصفيات ضدهم ، فيتخلص من أية بقايا للمعارضة السرية .
2 – إنه أراد أن يمتص نقمة الشارع العراقي وغضبه عليه بعد هزيمته في " أُم المعارك " .
33 – أراد أن يثبت للعالم أن نظام البعث هو الوحيد الذي يستطيع حكم العراق . وفي حال غيابه فإن الفوضى ستضرب أطنابها في البلد ، وستظهر دعوات تهدد وحدة العراق ، ما ينعكس سلبا على دول الجوار .
 إذا اعترض أحد على هذا الكلام وسأل : هل كان صدام سيضمن وجوده في الحكم في حال إعلان الانتفاضة ضده ؟ يأتيه الجواب بالإيجاب ، لاعتبار أن صدام يتمتع بأجهزة حماية يصعب ( إن لم يكن يستحيل ) اختراقها ، فضلا عن ضمانه لخروج قوات الحرس الجمهوري بكامل عدتها وعددها سليمة من " عاصفة الصحراء " .
 ويُلاحظ من التفسير السابق إنه بُنيَ على نتائج ما حصل خلال الانتفاضة ، بعد أن أغرقها صدام ونظامه في بحر من الدماء ، وأعدم ألوف الثوار ، وطارد آخرين ، ورُوِّجَ لدعوات تدعو إلى تقسيم العراق لدويلات .. لهذا فإنه ليس بالضرورة أن تكون هذه النظرية صحيحة .
 أما بالنسبة لتوزيع النظام السلاح على العراقيين ، فإنه تمَّ بناءً على توقع صدام بأن القتال مع الحلفاء سيمتد داخل المدن العراقية ، وصرّح بذلك في أكثر من مناسبة ، وليس لكي يُمضكِّن العراقيين من الانتفاضة ضده . فذَكَرَ مثلا ليفغيني بريماكوف ( مبعوث الرئيس السوفياتي السابق ميخائيل غورباتشوف ) : " أُحب ان تعرف جيدا أن العراق قادر على الدفاع عن نفسه .. حتى لو خرقوا الجبهة ، فإننا سنسحبهم إلى المدن ونقاتلهم بكل سلاح " . وقال له أيضا في 12 – 2 – 1991 م : " لو تمّ تدمير كل الطائرات والدبابات والمدافع سنقاتلهم بالبنادق في حرب تحرير شعبية " .
 لم يكن صدام يتوقع أبدا بأن العراقيين سيثورون ضده . ولو كان خطر في باله شيء من هذا ، فمَنْ كان يضمن أن الانتفاضة قد تقوم خلال الحرب وليس بعدها ؟ وفي هذه الحال لو أعلنت الانتفاضة خلال الحرب ، فمَنْ كان سيضمن بأنها لن تطيح بنظامه ؟!
 ولعل الأهم من هذا كله ، هو أن السلاح الذي وزّعه النظام على العراقيين ليقاتلوا به الحلفاء ، لم يخرج في الانتفاضة ضده ، وإنما خرجت في الأيام الأولى للانتفاضة أسلحة غيرها ، معظمها كان بدائيا .. إلى أن استولى الثوار على مخازن السلاح .
 وعليه تنقض هذه النظرية نفسها بنفسها ، ولا داعي مطلقا لأن يرددها العراقيون في مجالسهم ، ولو همسا .

ثانيا : أميركا والحلفاء وراء الانتفاضة :

يرى القائلون بهذه النظرية أن الولايات المتحدة ودول الحلفاء هي التي حرضت على الانتفاضة والإطاحة بنظام صدام . ففي الثلاثين من آب ( أغسطس ) عام 1990 م قال الرئيس الأميركي جورج بوش : " حسنا سوف لا أصاب بالخيبة إذا ثار العراقيون وقالوا أن هذا الرجل ( صدام ) هو سبب المشكلة " .
وأَعلنَ في 15 شباط ( فبراير ) 19911 م : " هناك طريقة أخرى لوقف نزيف الدم ، وهذا عائد للقوات المسلحة العراقية والشعب العراقي في أن يكون زمام الأمور في أيديهم ، لإجبار الديكتاتور صدام حسين على التخلي عن السلطة " . وكانت ذروة التحريض الأميركي في الأول من آذار ( مارس ) 1991 م وهو اليوم الأول لإعلان الانتفاضة في العراق ، بأنه سبق للرئيس الأميركي وأن أعلن أن الشعب العراقي إذا أطاحه ( أي لصدام ) " فإن ذلك سيسهل حل كل هذه المشاكل الموجودة ، وبالطبع سيسهل قبول عودة العراق إلى عائلة الدول المحبة للسلام " .
 وفي اليوم نفسه أجاب وزير الدفاع الفرنسي بيار جوكس ، بعد ان سُئِلَ عن مصير الرئيس صدام ؟ ": " يجب أن نولي الثقة للعراقيين " . وفي اليوم التالي 2 – 3 – 1991 م قال وزير الخارجية البريطاني دوغلاس هيرد : " إن العراق لا يمكن أن يعود إلى صف المجتمع الدولي ما دام الرئيس صدام حسين في السلطة " .
 هذه النظرية ما تزال رائجة في سوق بعض الكتّاب الذين يصرون على أن أميركا خططت للانتفاضة ودعمتها . وفي حقيقة الأمر أن الدور الأميركي ( مع الحلفاء ) اقتصر على التحريض على صدام ، وكان لهذا التحريض أثر في الانتفاضة .. لكنه لم يرتقِ إلى مستوى دعمها . ولو كانت هذه الدول فعلا وراء الانتفاضة لكانت ساندتها ودعمتها بقوة . . بل مقابل هذه التصريحات التحريضية هناك تصريحات أخرى تؤكد على تخلي دول الحلفاء عن الانتفاضة .
ففي الخامس من آذار ( مارس ) 19911 م أعلن البيت الأبيض : " ان إدارة الرئيس جورج بوش لا تنوي التدخل في شؤون العراق الداخلية على رغم استمرار الاضطرابات في عدد من مدن الجنوب العراقي " . وقبله بيوم واحد 4 – 3 – 1991 م أكد وزير الخارجية الفرنسي رولان دوما في مقابلة مع إذاعة " أوروبا – 1 " ان فرنسا " غير معنية بتغيير النظام العراقي الحالي ، ولن تساهم في حملة لعزل صدام حسين عن الحكم " .
 وسبقه زميله البريطاني هيرد إلى القول : " انه ليس من شأن دول التحالف أن تحدد مَنْ الذي يجب أن يحكم العراق ، كما لا يمكن جعل صدام شخصيا يتحمل مسؤولية الفظائع التي ارتكبها نظامه " . وصرّح الأمين العام للأمم المتحدة خافيير بيريز ديكويار لوكالة " رويتر " في 2 – 3 – 1991 م قائلا انه : " يعارض الإبقاء على التدابير والعقوبات التي قد يكون الهدف منها إسقاط النظام العراقي " .
ولم تقدم دول الحلفاء أي دعم أو مساندة للانتفاضة .. فعن نورا بستاني في " الواشنطن بوست " في  6 – 3 – 1991 م قال نائب مدير العمليات في القوات المشتركة الميجر جنرال مارتين برندتنر "سوف لا يتحرك أي جزء من القوات الأميركية للسماح بتسرب أي سلاح ( للثوار ) أو أن تلعب القوات الأميركية أي دور مهما كان من أجل إثارة أو مساعدة أي جانب " .
وكتب مدير الاستخبارات العسكرية العراقية وفيق السامرائي في 12 – 1 – 19966 م في صحيفة " نداء الرافدين " مُقِراً بهذه الحقيقة ، فقال : " وفي يوم من تلك الأيام العصيبة ( خلال الانتفاضة ) التقطت وسائل الاستطلاع اللاسلكي ( العراقية ) محادثة على شبكة اتصالات الثوار في قاطع الناصرية ، تتضمن ما يلي : 
 ذهبنا إلى قوات الحلفاء وطلبنا منهم أي شكل من أشكال المساعدة ، ورفضوا ذلك ، وقالوا لنا أنتم من جماعة السيد . وقال المتحدث ( الثائر ) على الطرف الآخر : اذهبوا مرة أخرى واطلبوا المساعدة .. فجاءت الإجابة بعد وقت : ذهبنا إليهم مرة أخرى وقالوا لنا أنتم شيعة ولا نساندكم " .
 ان الذين يفندون فكرة بأن أميركا ( والحلفاء ) كانت وراء الانتفاضة لا يكتفون بالتصريحات ( الأقوال ) التي تعزز تفنيداتهم ، وإنما يستدلون بالأفعال أيضا ، وهم يتساءلون : لماذا سمح الجنرال نورمان شوارتزكوف لقوات الحرس الجمهوري العراقية بالخروج سالمة من أرض المعركة ؟! ولماذا وافق على استخدام الجيش للطائرات المقاتلة خلال الانتفاضة ؟ .. وإن هناك أسئلة أخرى لا بد انها بحاجة إلى إجابات شافية .

ثالثا : المعارضة العراقية وراء الانتفاضة :

زعمت أطراف من المعارضة العراقية في الخارج ، بأن كوادرها العاملة في الداخل هي التي فجرت الانتفاضة ، وان الشعب العراقي استجاب لنداءاتهم التحريضية على النظام ، التي كان يوجهها زعماء المعارضة ( منهم أفراد ليس لديهم قواعد بالعراق ) عبر الإذاعات ، فثاروا عليه . ولكي تؤكد هذه الأطراف تلك الادعاءات أجرت صحف عراقية معارضة ( دينية وعلمانية ) لقاءات صحفية مع بعض الأشخاص ، أكدوا فيها تلك المزاعم .
 وتبنت جهات معارضة إصدار بيانات تتحدث عن " يوميات الانتفاضة " .. ومراجعة سريعة لتلك اليوميات ستكشف كم كانت الهوة سحيقة بين معارضة الخارج ومعارضة الداخل ، وكم احتوت من أحداث لم تحصل في العراق مطلقا !
 إن هذه النظرية هي من أضعف النظريات التي قيلت بشأن الانتفاضة حتى الآن . والغريب ان القائلين بها تخلوا عن ادعاءاتهم وغيّروا من لهجة خطابهم الإعلامي بعد فشل الانتفاضة ، حين أخذوا يؤكدون على أن أغلب الثوار كانوا من غير المنضمين إلى أية جهة سياسية عراقية معارضة .
 وبعيدا عن كل ما قيل ، لم يكن الشعب العراقي الذي ثار ضد صدام يعرف أو يسمع بالكثير من الأسماء المدعية معارضة النظام . وان هؤلاء المعارضين ( القادة ) لم يتجرأ أي منهم على دخول العراق خلال الانتفاضة ، باستثناء نفر قليل ولأسباب كثيرة . في وقت اجتمعوا فيه كمتفرجين على ما كان يحصل من قاعة فندق " البرستول " في بيروت ، وما أن انفضَّ الاجتماع حتى قفلوا راجعين كلٌّ إلى مقر إقامته .
وبكلمة صريحة ، حسب تعبير السيد حسين الشامي في كتابه " أزمة العراق " ( صفحة 844 ) ان المعارضة العراقية كانت متخلفة عن الشعب العراقي .

رابعا : تركيا وراء الانتفاضة :

هذه النظرية تبناها تحديدا الكاتب محمد حسنين هيكل في كتابه " حرب الخليج أوهام القوة والنصر " إذ يقول في صفحة 575 : 
 " وما كادت أصوات المدافع تسكت بعد سريان وقف إطلاق النار ، حتى كان الرئيس التركي تورغوت أوزال يستقبل بنفسه قادة الحركة الكردية ، وبينهم السيد جلال الطالباني ، وكان حديثه معهم غريبا . فقد بدأ يقول لهم ان في عروقه دماء كردية ، فجدته مباشرة سيدة كردية ، على حجرها تربى في بيت تتردد فيه مفردات اللغة الكردية وأغاني والموسيقى الكردية . وعلى مائدتها عرف أطباق المطبخ الكردي وأغرم بها . وانتقل أوزال من هذه الخلفية الكردية لتربيته إلى إبداء الاستعداد لتشجيع الحركة الكردية على أداء دورها المنتظر في شمال العراق " .. إلى أن يقول في صفحة 576 : 
 " وهكذا فإن شمال العراق كله كان خاليا من أية قوات عسكرية عراقية ، ولم تكن فيه إلا قوات البوليس العادية تؤدي وظيفتها ضمن جهاز الإدارة المدنية . ومع الفرصة السانحة ، ومع تشجيع تورغوت أوزال ، ومع تحريض أميركي سافر ، تدفقت قوات البيشمركة الكردية من معاقلها في الجبال ، في الوقت نفسه الذي أحسَّ فيه السكان في المحافظات الشمالية في العراق أن هناك فراغا في السلطة ، وأن هناك حالة فوضى تسمح لكثيرين ان يتصرفوا كما شاءوا " .
تعمدنا نقل هذا النص المطوّل من كتاب هيكل ، لنبيّن الحقائق الآتية :
11 – يصح هذا الكلام بأن انتفاضة الشمال وراءها تركيا ، لو أن السيد جلال الطالباني وقادة الحركة الكردية هم الذين قاموا بالانتفاضة ، بينما الحقيقة هي أن الشعب الكردي ( غير المنظّم في أحزاب ) ومعه " الجحوش " الموالين لنظام صدام هم الذين قاموا بالانتفاضة !
22 – لم يكن شمال العراق كله خاليا من أية قوات عسكرية عراقية ، وإنما كان النظام يحتفظ بنحو 100 ألف عسكري مسلح في الشمال ، تحسبا لأي طارئ ، فضلا عن القوات الكردية المرتزقة وقوات البوليس ، كما يسميها هيكل .
ويؤكد سعد البزاز في كتابه " حرب تلد أخرى " صفحة 2855 بأنه : " صدرت تعليمات محددة إلى منظومات العمل العسكري والاستخبارية شمال العراق ، لوضع خيارات لتحركها في الدفاع أو الهجوم الإجهاضي ازاء التعامل مع احتمال من هذا النوع ( احتلال تركي لأجزاء من العراق ) بعد أن جرى تعزيز الجيش الثاني التركي على الحدود " .
 وقد أسرت قوات الانتفاضة كبار القادة العسكريين العراقيين في شمال العراق ، ممن يحملون رتب جنرالات ، كالجنرال ( اللواء ) عبد المجيد عباس وهيّب ، والجنرال صلاح عبد المجيد خضير ، وعمداء وعقداء ومن ذوي الرتب العسكرية الأخرى .. فضلا عن اطلاقهم سراح آلاف العسكريين . فماذا كان يفعل كل هؤلاء في شمال العراق ؟ وما هو تفسير المعارك التي حدثت بين قوات الجيش وقوات الانتفاضة ؟
3 – أما بالنسبة لفراغ السلطة في الشمال ، فإنه لم يحصل في شهر آذار 19911 م ( شهر الانتفاضة ) وإنما حصل بعدها في شهر تموز ( يوليو ) بعد أن سحب صدام قواته وأجهزته الإدارية من المنطقة أثر المجازر التي ارتكبتها قواته ضد الأكراد ، ما استوجب تدخل الولايات المتحدة ودول الحلفاء لوقفها ، تنفيذا للقرار الدولي 688 الصادر عن الأمم المتحدة في 5 نيسان ( أبريل ) 1991 م .
44 – لنفترض ان انتفاضة الأكراد كانت بتحريض تركي واضح ، فما هو التفسير المنطقي للثورة الكردية المسلحة المعلنة في شمال العراق منذ ثلاثة عقود سبقت ذلك التاريخ ؟ لا أظن ان هناك علاقة ما بين جدّات زعماء تركيا السابقين وأطباق المطبخ الكردي !

خامسا : إيران وراء الانتفاضة :

لعل هذه النظرية هي الوحيدة التي حازت على إجماع أطراف عدة متباينة ، ونالت من الرواج والشهرة ما لم تنله غيرها . فقد رددتها وسائل الإعلام العراقية ( كما في المقالات السبع التي نشرتها صحيفة الثورة ) وأشار إليها صدام حسين في خطابه في 16 – 3 – 1991 م وتحدثت عنها وسائل الإعلام العربية والعالمية . واتهم مسؤولون دوليون إيران بأنها كانت وراء الاضطرابات في الجنوب العراقي .
انطلق أصحاب هذه النظرية من خلفية ، تَراكَمَ فيها إرث ثماني سنوات من الحرب بين البلدين ( العراق وإيران ) فظنوا بأن إيران ستستغل ضعف العراق وانهيار جيشه في عاصفة الصحراء ، لتدخل على خط الانتفاضة ثأرا وانتقاما من العراق ، واتخذوا من دخول بعض عناصر قوات بدر العراقية المقيمة في إيران إلى العراق ذريعة لما ذهبوا إليه .
وما عزز قناعة هؤلاء ، هو تحدّث وسائل الإعلام الإيرانية وتصريحات مسؤوليهم الكبار عن الانتفاضة .. منها مثلا ما أذاعته إذاعة طهران الرسمية في الأول من آذار 1991 م : " ان العراقيين سيخرجون قريبا عن صمتهم ويحمّلون الرئيس صدام حسين مسؤولية هزيمة بلادهم أمام قوات التحالف التي قادتها الولايات المتحدة " .
وما أكده المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني من " ان الطريق الوحيد لخلاص الشعب العراقي يمرُّ عبر خضوع الحكومة العراقية لإرادة شعبها " .. فضلا عن تحريم المرشد الإيراني السيد علي خامنئي اطلاق الجيش العراقي النار على الشعب ، وإقرار الرئيس الإيراني هاشمي رفسنجاني بأن عراقيين مقيمين في إيران يعبرون إلى العراق ولا يستطيع منعهم .
هذه كلها أوحت بأن إيران كانت وراء الانتفاضة . وتبنى كتّاب عراقيون وعرب هذا الكلام ، منهم سعد البزاز ومحمد حسنين هيكل ، فذكرا أن عشرات الألوف من الإيرانيين والعراقيين دخلوا العراق من إيران لإثارة الفتنة والاضطرابات في الجنوب العراقي ، وراحوا يعبثون بمؤسسات الدولة ويقتلون المسؤولين فيها ( أنظر سعد البزاز ، حرب تلد أخرى ص 449 ، ومحمد حسنين هيكل ، حرب الخليج أوهام القوة والنصر ص 570 – 571 ) .
أما سعد البزاز فقد كفانا مؤونة الرد عليه حين أقرَّ في كتابه " رماد الحروب " بأنه كان يكتب بدافع إرضاء السلطة والخوف منها . فهو يتحدث عن ظروف كتابته ل " حرب تلد أخرى " في كتابه ( رماد الحروب ) في صفحة 15 منه ، فيقول :
" لقد قلت كلمة في درجة حرارة محددة ، في زمانها ومكانها وظرفها وقيدها . وكانت تلك الكلمة جزءً من الحقيقة ، بل جزء من حقيقة ، ولا شك أن هناك أجزاء أخرى ستتبعها في الظهور ، مضافا إليها قدر أعلى من حرية القول ، وقدر أكبر من الرغبة في مقاومة التجهيل وتغييب المعلومات ، ودافع أعمق من أي من القدرين ، هو الإدلاء بشهادة جيل ثانٍ من المفكرين وشهود التاريخ " .
ويضيف في صفحة 17 – 18 قائلا : " ان الصدى الذي تركته كتاباتي وأقوالي ، جعلتني أدرك كم تحتاج قضايا البلاد إلى تأمل عميق وجدي يخلو من الغرض المسبق ، ومن الطمع في السلطة " .. لينتهي في صفحة 20 إلى القول : " ان روح التخويف لا ينبغي أن تؤدي إلى الاستسلام للحذر الجماعي ، لأن على النخبة هنا أن تؤدي بشجاعة دور التنوير والاستثارة وفتح مغاليق العقل والتعامل مع كل الخيارات ، بغض النظر عن درجة الرضى أو الرفض لدى أولئك الذين أنكروا حق الآخرين في الاجتهاد " .
وبناءً على هذا الإقرار فإن شهادة سعد البزاز عن الانتفاضة العراقية في كتابه ( حرب تلد أخرى ) مرفوضة لا يصح الاعتماد عليها .
أما " هيكل " فإنه يكتب عن دور إيران في الانتفاضة العراقية كما كتب عن دور تركيا فيها ، وبيّنا هناك كم جانَبَ الحقيقة في كتاباته تلك !
إن الذين أشاروا إلى تورط إيران في الانتفاضة عادوا فتراجعوا عن أقوالهم . ففي السادس من آذار ( مارس ) 1991 م صرّح ريتشارد باوتشر الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية ، قائلا : " ليس هناك أي دليل على دعم نشط من جانب إيران للاضطرابات في العراق " .
وصرّح مسؤول عسكري أميركي ل " الحياة " في الخامس من آذار ( مارس ) 1991 م امتنع عن ذكر اسمه ، قائلا : " ان المسؤولين الأميركيين اعتقدوا للوهلة الأولى ان القيادة الشيعية في إيران تقف وراء هذه الاضطرابات ، لكنه أصبح واضحا الآن ان الإيرانيين لا علاقة لهم بالأمر " .
وأيدت الناطقة باسم وزارة الخارجية الأميركية مارغريت تاتوايلر الكلام ، فقالت في اليوم نفسه : " ان ليس لدى الحكومة الأميركية معلومات تؤكد أن إيران تلعب دورا في الاضطرابات الحالية " .
أما بالنسبة لتحريض المسؤولين الإيرانيين ووسائل الإعلام الإيرانية العراقيين على إطاحة نظام صدام ، فإنها لم تكن جديدة على العراقيين لكي يتأثروا بها ، وإنما كانوا يسمعونها منذ عام 1980 م ، ولم يعيروها أية أهمية تُذكَر ، فما قيمة هذه التصريحات عام 1991 م ، وهم يستمعون إلى قادة الدول العظمى يحرضون العراقيين على إطاحة صدام .. ومن إذاعات أكثر أهمية وأكبر تأثيرا ؟!
إن الانتفاضة كانت عراقية خالصة ، قام بها عراقيون ، من مختلف الشرائح وأصناف المجتمع .. والخوف أن تُزيَّف حقائقها في المستقبل ، فيخرج بيننا مَن يزعُمُ – ولو بعد سنين – بأنها كانت انتفاضة رجال دين ، أو شيوخ عشائر ، أو ضبّاط جيش .. بينما الحقيقة ستبقى خافية !
قدّمت الانتفاضة الشيء الكثير ، لكنها فشلت في نهاية المطاف .. ترى ما الذي أفشلها ؟ وما هي أسباب فشلها ؟
( ستليها الحلقة الخامسة )