الفتلاوي والدليمي.. واستحضار سهير رمزي

 

أن تعتبر قتل الناس خدمات جليلة تقدمها للنظام السياسي، وارتكاب الجرائم والمذابح عملاً وطنياً، فهذا منتهى الإصرار على تأسيس نظام يبني فاشيته باسم القانون وخرافة الحفاظ على الأمن.
تقوم الأنظمة الاستبدادية، على إشاعة خطاب الكذب، وتعبئة الناس وردم عقولهم، رافعة شعار "صدّق ولا تناقش" يكتب أريك هوبزباوم في موسوعته الكبيرة عن تاريخ العصر الحديث إن "الدول المستبدة تقوم على شيء واحد هو تحريف الوقائع، والقفز على الحقائق، ما تراه الناس لا أهمية له، لأن الحقيقة الوحيدة هي ما سيقوله الحاكم حتى الصور والشهادات لا تعدو دليلا.. الدليل الوحيد هو الصوت العالي حيث المستبد يخطب رافعا ذراعه، فيما خداه ترتجفان، وعيناه لا تتوقفان.. وكلماته تمتلئ كرها لكل شيء "ألم يخرج علينا غوبلز ذات يوم وهو يتطلع في وجه هتلر ليصرخ: " من هو هذا الرجل.. يا إلهي الآن أيقنت أنني أقف بحضرة المسيح " فيما أصرّ وزير تربية الفوهرر على أن يكتب بنفسه النشيد الذي يتلوه التلاميذ كل صباح:" أيها الفوهرر الحبيب. نحبك أكثر من آبائنا وأمهاتنا. وكما ننتمي إليهم ننتمي إليك أكثر. تقبّل في لدنك حبنا وإيماننا أيها الفوهرر الحبيب".
بالأمس خرج علينا عدد من السياسيين والمسؤولين ليكتبوا بأنفسهم نشيد "أيها القائد نحبك"، ففي تصريح غريب ومثير قال وزير الدفاع سعدون الدليمي إن ساحات الاعتصام تحولت إلى مسالخ يديرها إرهابيون. وسأفترض حسن النية في الوزير، وأصدّق أن الاعتصامات يقف وراءها إرهابيون وقتلة، ولكن كيف لي أن أصدّق أن الوزير نفسه قال لنا في أول أيام الاحتجاجات ، وهو في طريقه إلى الأنبار، إن الاعتصامات سلمية، وإن العديد من مطالب المتظاهرين مشروعة وستسعى الحكومة لتنفيذها.. لا أريد أن أذكّر صاحب الوزارتين بتقارير هيومن رايتش واليونسيف وبشهادة ممثل الأمم المتحدة كوبلر الذي قال بالحرف الواحد" منعوني من زيارة الحويجة قبل الحادثة وأنا لست حزينا بل غاضب جدا ".. الغريب أن الدليمي الذي اعتبر ملحمة الحويجة فتحا وطنيا، لم يبلغ باقتحام ساحة الاعتصام وسمع بالأمر من مرافقيه.. هذا ما أخبرنا به الفريق محمد العسكري الذي قال وبالحرف الواحد أيضا: إن"مسائل من هذا النوع التي تتعلق بمكافحة التمرد والعصيان لا دخل لوزير الدفاع فيها" الحكاية الطريفة التي رواها لنا الناطق باسم وزارة الدفاع ذكرتني بما حصل مع وزير الدفاع السابق عبد الجبار شنشل صبيحة 2/8/1990، وهو اليوم الذي اجتاح فيه صدام الكويت.. في ذلك الصباح كان شنشل يستقل سيارته العسكرية ليذهب إلى المستشفى لإجراء فحوصات طبية، في الطريق سمع إذاعة بغداد تبثّ أناشيد وأغنيات تعبوية فقال للسائق: " ما هذا، فالتفت السائق إليه ليلقي بالمفاجأة في وجهه: سيدي شنو متدري مو دخلنه الكويت! عندها قال شنشل: استدر ولنذهب للدفاع لنرى ماذا حصل، بعد الاجتياح بثلاثة أيام يلتقي صدام بشنشل وبعض القادة العسكريين فيمازحهم: أرجو ألا تزعلوا.. لم أخبركم بالعملية لأنني لا أثق بأحد في مثل هكذا مسائل "!
وأزعم أن تلك الفلسفة "الفاشية" لا تختلف كثيرا أوقليلا عن الفلسفة "العسكرية" التي أثمرت مجزرة الحويجة وستثمر مستقبلا مجازر أخرى، خصوصا أن الحكايات المؤسسة لهما واحدة، وتقوم على اختراع منتج جديد اسمه "المواطنون الشرفاء" في مواجهة صنف آخر من السكان يطلق عليهم اسم "أصحاب الأجندات الخارجية".  
سيقول البعض إنه من العبث أن تتوقع من هؤلاء الملتصقين بكراسي الحكم، أن يؤسسوا دولتهم على القوانين، لانهم يبنون "سلطاتهم" على تغييب القانون وامتهانه واحتقار عقول الناس من خلال تشبيه مقتل العشرات بأنه فيلم من بطولة سهير رمزي وأحمد زكي، كما أخبرتنا الزعيمة حنان الفتلاوي التي استحضرت كل خبراتها و"فصاحتها" للدفاع عن أجهزة أمنية يريد لها البعض أن تتحول إلى ميليشيات تدافع عن السلطة خارج القانون، فالنائبة التي ظهرت على شاشات الفضائية تصرخ في وجوه الجميع "ماكو.. ماكو" وكأن لسانها قد وضع على جهاز تسجيل، يردد جملة فقيرة واحدة : إنهم لا يريدون أن يحكم العراق "شيعي" وهذه خدعة اخرى يريدون من خلالها أن يوهموا الناس أن المطالبة باستجواب المالكي هي محاولة لاستهداف مكون طائفي بأكمله.. إنها حروب الطائفية.... ليس مهماً أن تتدمر الدولة.. أو تتحول مؤسساتها الأمنية إلى حراسات خاصة لمن يمنح العطايا والامتيازات.. حتى ولو كان ذلك على حساب بناء أجهزة أمنية حقيقية تحمي المواطن والمجتمع.
"ماكو" الفتلاوي تعتقد أن السياسة فن الكذب، فيما يعلّمنا شيخ المتسامحين مانديلا أن السياسة فن المرونة والذكاء.. وهذه أشياء تختلف كثيرا عن الكذب ولا مكان فيها لأفلام من بطولة سهير.. عفواً  "حنان الفتلاوي".