تأثير العامل السياسي في رسم الخطط المالية |
لقد كان للتطورات التي شهدها العالم في النصف الأخير من القرن الماضي ، و بخاصة تلك التي تتعلق بالأزمات الاقتصادية و المالية العالمية ، و التي كان لها أثر كبير في تزايد حجم المديونية الخارجية و خدمة الدين العام و العجز في الموازنة و اختلال ميزان المدفوعات لمختلف الدول التي كان لها الدور الكبير في تحول دور السياسة النقدية ، و تغيُر مفهومها ، و طريقة عملها ، و ذلك ابتداءً من ظهور الفكر الكينزي الذي دعا إلى ضرورة تدخل الدولة باستخدام السياسات الاقتصادية الكلية ؛ من أجل معالجة الركود الاقتصادي ، و تحقيق الاستقرار ، و النمو . كل ذلك استوجب القيام بالعديد من التغيرات في السياسة النقدية و المالية ؛ مما أدى لتطور أساليب ، و أدوات ، و أهداف كل من السياسة المالية و النقدية ؛ مما كان له دور كبير في تغيُر نظرة الدول إلى السياسة النقدية و المالية . رغم أن السياسة النقدية تعد من السياسات الرئيسية في تحقيق النمو و الاستقرار ، إلا أنها تختلف من حيث التطبيق من دولة إلى أُخرى و ذلك بحسب متغيرات كل دولة ؛ إذ أن نظرة الدول النامية للسياسة النقدية تختلف عن نظرة الدول المتقدمة من حيث الأهداف ، فالدول المتقدمة ترى أن هدف السياسة النقدية الأساسي هو تحقيق الاستقرار النقدي و تخفيض معدلات التضخم . أما الدول النامية فترى أن هدف السياسة النقدية أبعد من ذلك ؛ إذ تهدف من خلالها إلى تحقيق النمو الاقتصادي ، و الاستقرار النقدي ، و تخفيض مستويات البطالة ، و استقرار أسواق صرف العملات . مكانة هامة علاوة على ذلك ، فإن السياسة المالية تحتل مكانة هامة بين السياسات الأُخرى ؛ لأنها تستطيع أن تقوم بالدور الأعظم في تحقيق الأهداف المتعددة التي ينشدها الاقتصاد الوطني ، و ذلك بفضل أدواتها المتعددة التي تعد من أهم أدوات الإدارة الاقتصادية في تحقيق التنمية الاقتصادية و القضاء على المشاكل التي تعوق الاستقرار الاقتصادي . هناك العديد من العوامل التي تؤثر في اتباع السياسات المالية و النقدية في أي دولة ما ، و لعل ابرز هذه العوامل هو العامل السياسي ، حيث أن كل نظام ضريبي هو ناتج عن قرار سياسي ، فتأثير السياسة على الضريبة وُجد منذ قديم الزمان ، و قد مس كل من الدول المتقدمة و المتخلفة . كانت السياسة المالية حتى سنوات قليلة خلت هي الخادمة للسياسة المسؤولة عن إمدادها بالأموال لنفقاتها و في الحاضر أصبحت السياسة المالية هي المعاون للسياسة بالإضافة إلى الوظائف الاجتماعية و الاقتصادية التي أُسندت لها . إن التأثير المتبادل بين السياسة المالية و العوامل السياسية يظهر بوضوح لأن الاقتطاع العام من الدخل الوطني جد هام ، كما أن تحديد قيمة هذا الاقتطاع و تحديد توزيعه و قرارات استعماله تثير مشكلات سياسية هامة ، و يمكن توضيح الأثر المتبادل بين السياسة المالية و العوامل السياسية في نقاط ثلاث : 1 – تأثير الظواهر المالية على السياسة الداخلية يمكن للسياسة المالية أن تؤثر على الحياة السياسية سواء عن طريق النظم السياسية ، حيث أن كل نظام سياسي يمارس اختصاصات مالية يستخلص من هذا الواقع سلطة سياسية أعلى من السلطة النابعة عادة من الأحكام القانونية التي تحدد نظامه و خير دليل سلطة البرلمان و اختصاصه المالي و تفوق وزير المالية لأنه الوحيد المسؤول عن تحقيق التوازن بين نفقات و إيرادات الدولة ، كما له الحق في الاطلاع على جميع القرارات التي يمكن اتخاذها من طرف زملائه و المتعلقة بالنفقات ، و من أجل السماح له بإنجاز عمله المالي اعترف له بامتيازات قانونية اشتق منها زيادة سلطته السياسية . حياة سياسية كما يمكن للسياسة المالية أن تمارس تأثيرها على الحياة السياسية من خلال تأثيرها على الأحداث السياسية ذات الأصل المالي أي الناتجة عن أسباب مالية و ضريبية كوطأة العبء الضريبي على الطبقات الفقيرة . 2 – تأثير العوامل السياسية على السياسة المالية يمكن أن ينظر لهذا التأثير من ناحيتين : فمن ناحية تأثر البنيات السياسية نجد أنّ الطبقة الحاكمة في أيّ وفي أيّ تاريخ تمثل عنصراً هاماً للتوجيه المالي للدولة ، أي أن السياسة المالية و حجم توزيع النفقات و تحصيل الإيرادات مكيفة بقدر كبير حسب النظام السياسي السائد ، أي أنَّ الفئة ذات التفوق السياسي تستعمل سلطتها المالية للمحافظة على سيطرتها في الدولة سواء عن طريق السياسة الضريبية أو حتى عن طريق النفقات العامة التي أصبحت تستخدم كوسيلة تأثير اجتماعي واقتصادي قوية مثل ما هو معروف بالنفقات الحكومية والإعانات. أما من ناحية تأثير الوقائع السياسية ، هو أن الأحداث السياسية الهامة لها انعكاسات على السياسة المالية لما لها من تأثير على إمكانيات الإيرادات و ما تحدثه من تغيرات في قيمة و محل النفقات العامة ، و من هذه الوقائع السياسية نجد الأحداث العسكرية و ما لها من تأثير واضح على السياسة المالية ، و يمكن تتبع تطور السياسة المالية من خلال تطور الظواهر العسكرية ، فميلاد الضريبة مثلاً مرتبط بظهور الحملات العسكرية ، هذا من جهة ، و من جهة أخرى أنَّ الحروب عادة تترك خلفها آثار مالية ، مثل عبئ القروض و نفقات إعادة التعمير ، لذلك يجب معالجة هذه النفقات الاستثنائية بطرق استثنائية كالقروض القهرية أثناء الحرب ، زيادة عن الحروب نجد كذلك الاضطرابات الاجتماعية التي هي الأخرى لها انعكاسات على السياسة المالية . و عادة تؤدي هذه الاضطرابات إلى عرقلة عمل المصالح الضريبية الذي ينعكس هو الآخر على التحصيل الضريبي . نجد في الوقت المعاصر ملامح التدخل بين الاعتبارات السياسية و السياسة المالية تظهر جلياً أثناء الحملات الانتخابية ، قد يأخذ البرنامج طابعاً مالياً مثل المطالبة بتخفيض الضرائب ، أو إلغاء نوع معين من الضرائب ، حيث تنفيذ أي برنامج سياسي يكون عن طريق نفقات جديدة . 3- التأثير المتبادل بين الموازنة العامة و العوامل السياسية . الميزانية هي ذلك التصريح الدوري الممنوح من البرلمان إلى السلطة التنفيذية بتحصيل الإيرادات و صرف النفقات ، و من هذا يظهر جلياً التفوق التشريعي على السلطة التنفيذية الناتج عن تطور تاريخي طويل ، كما توجد علاقة وثيقة بين الموازنة و البرلمان ، فقد ظهرت الموازنة أحياناً كعامل لدعم البرلمان و أحياناً أخرى عامل لاندثاره . و أخيراً إن المتتبع للعلاقات المتبادلة بين الاعتبارات السياسية و السياسة المالية يلاحظ أنَّهما سياستان لا يمكن الفصل بينهما ، فمن الناحية التقنية نجد أن القرار الخاص بكمية الإنفاق والقرار الخاص بتمويل هذا الإنفاق ، فلا يمكن عدهما قرارين منفصلين . هنا ؛ نخلص إلى أن إمكانيات عمل السياسة المالية على الوجه الصحيح تكون أكبر في النظم السياسية ذوات الحكم الديمقراطي ، كما أن فعالية أداء السياسة المالية في الدول المستقلة تكون أكبر منها في الدول المستعمرة اقتصاديا و ماليا . |