تركيا.. الوجه الآخر من الأزمة

يبدو أنّ السياسة التركية تحولت الى ممارسة علنية في المفارقات، وفي محاولة جرّ الايديولوجيا الدينية الى منطقة الفخاخ السياسية، وهذا بطبيعة الحال يكشف عن أزمة تدابير، وقصور  في رؤية الآخر الذي لا يزال يرى في الشخصية التركية صورة(العثماني) القديم بطربوشه، وغطرسته وأوهامه.
سياسة الرئيس التركي أردوغان مع الاتحاد الأوروبي تؤكد هذا الوهم، وهذه الهشاشة في تداول فكرة(أربنة) تركيا، فالرجل يتصرف وكأنّ أوروبا حديقته الخلفية، وأنّ له الحق في دعوة أتباعه لممارسة طقوسهم، وتظاهراتهم المؤيدة له، ولطموحاته في الرئاسة الكاملة دونما استئذان من أحد، رغم أنّ السجل الحقوقي للمؤسسة التركية يفتقد للصلاحية الكاملة، لاسيما في ما يتعلق بقضايا تاريخية تخصّ الأرمن وإبادتهم، وكذلك ما يخصّ الكرد ومايتعرضون له في تركيا، وعلى الحدود مع سوريا، وفي شمال العراق من صراعات، ومن تصفيات، ومن حربٍ علنية، فضلا عن العديد من الممارسات ازاء الحريات الاعلامية، وإزاء القوى المعارضة في تركيا.
تصاعد الحديث الساخن بين تركيا وهولندا، وقيام دول أوروبية أخرى بمنع تجمعات للجاليات التركية المؤيدة لأردوغان يكشف عن أزمة حقيقية، وعن ترتيبات سياسية وأمنية سيتخذها الأوروبيون، وربما ستكون عامل ضغط على الولايات المتحدة الأميركية لإعادة النظر بعلاقتها مع تركيا، فهذه الأزمة تجاوزت حدودها الدبلوماسية، وقد تدخل في حدود المصالح والحسابات السياسية، واعادة تصنيف تركيا- الشريك العسكري- على وفق مايثار في الملفات الحقوقية والإنسانية.
الحديث عن تصفية حسابات مع الاتحاد الأوروبي ليس واقعيا، وحتى  إتباع سياسة الضغط بسبب موضوع اللاجئين، أو الحروب المشتعلة في المنطقة، لم يعد موضوعا فاعلا، لأن تركيا متورطة في هذه الموضوعات والازمات، وأنّ ارتدادها عليها سيُزيد من مشاكلها الداخلية وعزلتها الخارجية.

العودة الى الملاذ الاقليمي
عدم قدرة تركيا الاردوغانية على الاندماج مع الشروط الاوروبية للانضمام للاتحاد الأوروبي، سيجعلها أمام مفترق طرق، فهي تعيش نظامها الاقتصادي والاجتماعي والسياحي على وفق سياقات الاقتصاد الحر، والروح العلمانية التي فرضها اتاتورك منذ عشرينات القرن الماضي كهوية للجمهورية التركية، مقابل أنّ اخوانيتها الاسلامية– الجديدة–والتي فرضها الحكم الجديد، ومايطمح اليه من تعديلات دستورية، جعلتها تتصرف خارج السياق، وتفرض نظرتها الضيقة على علاقتها الاقليمية، وتدخلاتها في شؤون الدول الأخرى، لا سيما في العراق وسوريا.
هذه النقائض ستجبر تركيا الاردوغانية للبحث عن(ملاذات اقليمية آمنة) للتخفيف من الاحتقان السياسي الذي تعيشه، والأزمات الاقتصادية التي قد تواجهها قريبا، لكن السؤال الأكثر اثارة هو: هل ستتمكن تركيا من الاندماج الحقيقي، والتنسيق مع دول الاقليم، لاسيما مع ايران؟.
هذا السؤال قد تكون له علاقة بدخول تركيا مع روسيا وايران في حلف ثلاثي لحلّ القضية السورية، لكنه قد يدفع تركيا لأنّ تدخل أيضا في قوس الأزمات، من خلال حربها المفتوحة مع الكرد، ودعم بعض التوجهات ضد النظام السياسي في سوريا، واتهام ايران– احيانا– بتهمٍ طائفية، فضلا عن دعمها لسياسات طائفية في العراق، وآخرها استضافة مؤتمر للسنّة في اسطنبول، وتحت رعاية مخابراتية اقليمية، وهذا يعني أنّ عودة تركيا الى الاقليم ستكون عودة غير محمودة.

تركيا والقلق الأوروبي
الأزمة الدبلوماسية مع هولندا، وامتدادتها الى السويد والمانيا، دفعت اردوغان للرد وبطريقة أثارت حساسية الكثير من القوى السياسية في هذه الدول من خلال اتهامها بالنازية، والتي قد تُستخدم لأغراض انتخابية، تساعد على فوز اليمين المتطرف المناهض للاسلام ولقبول اللاجئين من دول الازمات الى اوروبا.
هذه الأزمة ستزيد من الخانق السياسي، وصولا الى الاعلان عن تسريبات تقول إن اوروبا ستعيد النظر بالمساعدات المُقدّمة لتركيا، فضلا عن اجراءات قد تسبب ضررا للاقتصاد والسياحة في تركيا، وهو أمرٌ قد لاتتحمله تركيا طويلا، فهل ستبحث تركيا عن حلول، أو مناورات سياسية ودبلوماسية لفكِّ هذا الاختناق؟ وهل ستجد في الملاذ الاقليمي/ الاسلامي مجالا أكثر إنقاذ لها من ازماتها المتفاقمة؟ وهل سيكون هذا الملاذ ساندا لها في سياساتها المتطرفة وفي حلولها العسكرية مع المكونات الأخرى في تركيا؟
هذه الاسئلة ليست بعيدة عن الطاولة التركية، وربما ستكون باعث خوفٍ من انقلاب جديد قد يطيح بكل احلام اردوغان، وبطموحاته في اقرار دستور جديد يُعطي لها صلاحيات فائقة، قد لاتتناسب مع المزاج الاوروبي الباحث عن وجوه أخرى لمفاهيم الحريات والحقوق.