الأحزاب الدينية ، ودورها في دخول الناس في الإلحاد أفواجا !.

يذكرني هذا الموضوع بظاهرة إنتشار المد الإلحادي على نطاق واسع في أوربا وإمتداده حتى أيامنا هذه بعد إنتهاء حكم الكنيسة بعصورها المظلمة ، كردّ فعل عنيفٍ بقدَر عنف تصرفات الكنيسة التي كان همّها الإستئثار بالسلطة والأنهماك بالنهب وإفشاء الخرافات والجهل والتخلف كسلاح للبقاء مهما كان الثمن ، فكانت تبتدع الكثير من الأكاذيب والسنن ، وتقمع وتقتل وتحرق بإسم تعاليم السيد المسيح (ع) وهو منها براء ، ومن جرائمها الكبرى أنها كانت السبب المباشر لإنتكاس حقوق لإنسان التي جائت الأديان لأجلها ، وتدهور التطور والعلم ، وذلك بمحاربة العلم والعلماء العظام مثل كوبرنيكوس وبرونو وغاليليو والمئات غيرهم من الذين قضوا متعفّنين في السجون ، أو ضحايا خوازيق الحرق ، أو بالنفي ، تحت شعار الهرطقة (Heresy) أو الكفر ، في ظل كنيسة تنظر لآلات تعذيب ينفر منها حتى إبليس بنفسه على إنها أدوات لتطهير الروح ! ، رغم إننا عندما نراجع علوم هؤلاء العلماء وفلسفتهم ، لا نجدها تتناقض قيد شعرة مع نصوص الكتاب المقدّس ، بل على العكس ، وجدنا أن تراث هؤلاء العلماء يدعو للتأمل والتفكّر بالدور الربّاني الذي لا يحدّه شيء في مسألة الخلق ، واللامحدودية هي التي تحث على البحث والتقصي والفضول العلمي ، وكان القيّمون عن الكنيسة بمنتهى التخلف ، فعلى سبيل المثال ، حاربوا بلا هوادة الإدعاء المدعوم بالبرهان العلمي ، أن الشمس مركز المجموعة الشمسية وأن الأرض كوكب تابع كسائر مجموعتها يدور حولها ، فكان جوابهم أن ذلك كفر ، فلا (يُعقل) أن تكون الأرض تابعا يدور وهي مهد السيد المسيح ، فما كان من (غاليليو) العظيم ، ذلك الشيخ الحكيم الذي لا يحتمل جسده الهَرِم التعذيب إلا أن ينكر إدّعاءه ، فعفوا عنه ، ولكنه عندما غادر بوابة محكمة التفتيش (Court of Investigations) السيئة الصيت ، رمق السماء بنظرة قائلا (ولكن الأرض رغم ذلك تدور) ! ، هكذا بنوا وجودهم على الجهل والإستنتاجات المريضة والمنطق السقيم ، ثم جعلوها تعاليما دينية تتناقض مع العلم الكافر !.

ومثلما أدين في قرارة نفسي تصرفات الكنيسة ، وهي تصرفات أعلم مدى بعدها عن المسيحية الحقة ، إلا إني أدين أيضا ردود الفعل العنيفة بعد إنهيار حكم الكنيسة في عصر النهضة ، كونها غير متزنة أفرزت أفكارا تغلب عليها صفة الإنتقام من العصور المظلمة ، وساد المنطق العام من إن الأديان هي التي تقود للظلم والتخلّف ! ، وغاب عنهم أن المشكلة الحقيقية تكمن في البشر ، وبالذات من يدّعون الدين ، وليس الدين بحد ذاته .

لقد سِقت هذه المقدمة بسبب إنتشار ظاهرة غير معلنة إلا أنها تعتمل تحت الرماد في العراق ، إنه رد الفعل على تصرفات الأحزاب الدينية بمجملها في العملية السياسية ، إنها عين ظاهرة العصور المظلمة التي عاشتها أوربا ، فالنهب والإثراء غير المشروع ، والإستئثار بالسلطة والجاه ، ورجال محسوبون على أحزاب وتيارات وكتل دينية يتكالبون على الكراسي ، معممون أم أفندية تحت شعار الدين ، إلى درجة تثير تساؤل المواطن وهو يرى بأم عينه التناقض الصارخ بين أهم التعاليم الدينية كالزهد والتواضع ، وبين الترف والبذخ والتهافت على الأضواء بمواكب فارهة مليئة بالحاشيات والبطانات ، وسكنهم في القصور التي لا يحلم بها قيصر وكسرى ، وأنهماكهم في بناء الجداريات ، ذلك الأسلوب الصدّامي بإمتياز بكل ما به من تحدّ وحرب نفسية وذكريات عن ماض ظالم مؤلم ، وجعلهم من أنفسهم القاضي والجلاد في نفس الوقت ، فيسأل المواطن نفسه ، إذا كانت تصرفات هؤلاء (القريبون من الله) كما يُفترض بهذه الطريقة ، وتحت ظلالهم قامت أسوأ دولة في الأرض بإرقام قياسية عالمية في  الظلم والفساد والمحسوبية والتخلف والتخبط السياسي والأمني لنظام يُفترض أنهم قادته ، وقد أثبتوا فشلهم في إدارة مشروعهم منذ البداية ، ولا زال الفشل يقود إلى فشل ، فما موقعي أنا ؟ على مَن يكذب هؤلاء ؟ على الله !؟ ، أي صلاة وتعبّد يقبلها الله ؟ مني أم منهم !؟ .

والخطر أن تقترن هذه التساؤلات بسوء الظن بالله العادل ، من قبل الشخص الذي لا يحمل تحصنا روحيا ، أو مناعة يفرضها الوعي والثقافة الدينية ، وهم يرون تقلّب تجار الدين في البلاد ، وإستيلائهم على الأملاك والأراضي والعقارات ، بحيث يفهم أنهم جاؤوا للأنتقام والإثراء ، لا للبناء والإصلاح ، بعمامة وجبة لا تعدو إلا كونها عُدة (للبزنس) ! ، وسيكون التنافر منهم بلا شك على أشدّه بحيث يحرق الأخضر واليابس ، وسيخالف معارضوهم أية صفة يتصف بها تجار الدين أولئك ، وسيتمردون عليها ، حتى لو كانت العبادة والقرب من الله ، والله بريء من الفريقين !..

يا له من حساب عسير ذلك الذي ينتظر من يدّعي الحفاظ على بيضة الإسلام قولا ، لكنه يفتتها فعلا يوم يقف بين يدي الله ، لأن أمثاله أدخلوا الناس في الإلحاد أفواجا ، بدلا من التصرف فعلا لا إدّعاءً فحسب ، ذلك الذي يقود للهداية طوعا ، إلى درجة إفقاد العراقي حصنه الروحي والديني برغم كونه قريب من الدين على الأقل كعادة متوارثة ، مع وجود عشرات الأضرحة والرموز المقدسة الشاخصة في بيئته ليتوجّه للإلحاد ، فكيف بالأجانب بخوائهم الروحي ، وهم يرون جرائم (داعش) التي لا ترتكبها حتى الوحوش المختلّة عقليا ؟!.

ثم يأخذ المتوجّه للإلحاد منحىً أكثر شمولية ، فيرى العالم منقسم بين دول مؤمنة لكن متخلفة وذات أنظمة سياسية فاسدة ومنتهكة لحقوق الإنسان ومُقيدّة للحريات وذات إقتصاد متدهور وتعيش على حافة الفقر ، وبين دول ملحدة متطورة تكنولوجيا وسياسيا وحتى إجتماعيا وغنية وذات حرية متاحة للجميع ، فيربط تلك الأوضاع بالدين ، دون بذل عناء وضع اليد على الجرح ، من أن الأنسان هو السبب ، بالذات رجال الدين والأحزاب الدينية ووعاظ السلاطين المأجورين ، فبدلا من إستقطابهم للناس بالفعل لا بالقول ، نفّروهم من الأديان لأنهم ضربوا أسوأ الأمثلة بنزوعهم للتشدد كضرورة للبقاء ، وتركهم أقدس ما دعت إليه الأديان بمجملها ، كالحث على العمل وطلب العلم والبحث وخدمة المجتمع والنزاهة والصدق والزهد والتعاون وكف الأذى والتسامح والتواضع ، تلك هي الآفة الحقيقية التي تُغذي ماكنة الإلحاد ، ثم يأتي دور العولمة في غسل الأدمغة ، بقنواتها التي لا عدد لها ، وهي تحث على الخروج عن التقاليد البشرية العامة ، وتشجع المثلية ، والإنحلال الأسري والإجتماعي ، وتمجد الإلحاد ، بإعتباره علة التفكير الحر !.

في كل العمليات السياسية ، العراقية منها والعربية وحتى العالمية ، لم أجد حزبا دينيا واحدا ، حقيقيا وناجحا وذو قاعدة عريضة ، فأما أن ينزلق الحزب الديني إلى أحابيل السياسة الحديثة ، بكل ما فيها من نفاق وعفونة وتكالب وإنتهازية وتملق الأقوى ، وبالتالي الأستئثار بالسلطة ، أو أن يثبت على مبادئه ، ليكون مغردا خارج السرب ومعزولا في عالم بلا مبادئ ، لأن الدين نهج حياة وأخلاق ويقظة إنسانية ووجدانية ونماء للفطرة السليمة ، إنه العلاقة السرية المقدسة بين العبد وربّه ، وإلا صارت رياءً ، وكلٌ يفهم خالقه على طريقته ، ألم يقرأوا التاريخ فتعلق في ألسنتهم مرارته اللاذعة ، وهم يرون أن عليّا قد وضع قاعدة (إن الإنسانَ إذا مَلَكَ ، إستأثر) ، واتضح أن عليا وحده ، كان إستثناءً لهذه القاعدة ! ، والمفارقة أنه أستشهد على يد (سود الجباه) أولئك ! ، فأين هم من عليّ ؟ أين هم من أي رمز تاريخي أو ديني ذلك الذي تزخر بهم أرض الرافدين ؟! ، هل حاولوا يوما تقصّي قاعدتهم الحماهيرية دون مواكب وإمّعات وحرس ، فينزلوا متنكرين إلى الشارع ، ليستشفّ الحقيقة على لسان أبسط الناس عن رأيهم بهم ، ولكن أنّى لهم التنكر ؟ فهل يخفى القمر ؟ !.

فيا أيها السياسي ، إذا أردتَ لموجة الإلحاد أن تنحسر ، فما عليك إلا أن تبهر الناس بصدقك وأمانتك ، بعلمك وعملك ، بنزاهتك بكرمك ، بتسامحك بزهدك بتواضعك ، بحبك للناس وحرصك عليهم ، وعندما تُسأل عن خصالك ستجيب (لأني مسلم أخاف الله) ، عندها ستستقطب الناس ، حتى لو لم تكن منتسبا لحزبٍ ديني!