تصريح استفزازي جديد من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يثير لدى الأوروبيين ذكريات حقبة تاريخية مؤلمة. فقبل 500 عام اجتاح السلطان العثماني (سليمان القانوني) أجزاء واسعة من شرق ووسط أوروبا حتى وصل إلى فينا عاصمة الأمبراطورية النمساوية حينذاك. لكن أسوارها المنيعة حالت في خريف عام 1529 دون سقوط العاصمة المتألقة لسلالة هامبسبورغ وأوقفت زحف المحاربين الأشداء القادمين من الآناضول نحو أوروبا الغربية. ما عجز عنه سليمان القانوني يحلم الآن "خليفته" رجب طيب أردوغان بتحقيقه ولكن من داخل أوروبا نفسها. ففي تجمع انتخابي في مدينة اسكيشهر في غرب تركيا دعا الرئيس الإسلامي الجالية التركية في أوروبا إلى إنجاب المزيد من الأطفال. وخاطب الرئيس التركي في 17 آذار/نيسان مواطنيه في ألمانيا والنمسا وهولندا وغيرها قائلا:"إنجبوا خمسة أطفال، بدلا من ثلاثة!". بل ووصف في كلمات صريحة أبناء جلدته بأنهم "مستقبل أوروبا" في تجاهل واضح لسكان البلاد الأصليين، وطالبهم بأن "يعيشوا في أرقى الأحياء ويقودوا أفضل السيارات ويسكنوا أجمل البيوت". صحيح أن أردوغان لم يوضح لأفراد الجالية التركية طريقة الحصول على ذلك، إلا أن خطاب أردوغان ينطوي في حقيقة الأمر على دعوة صريحة لغزو البلدان الأوروبية من الداخل بواسطة سلاح الديموغرافية الذي لا يرحم. وبرّر أردوغان أقواله الغريبة والتي تفتقر للياقة الدبلوماسية بأن إنجاب المزيد من الأطفال هو أفضل رد على ما وصفه بـ"العداء والوقاحة" التي تعامل بها أوروبا الغربية الأتراك المقيمين فيها. ليست هذه المرة التي يحاول فيها أردوغان معاملة النساء التركيات وكأنهن "ماكينات لتفريخ" الأطفال. فقد سبق له أن عبر عن رفضه القاطع لتحديد النسل أو تنظيم الأسرة في تركيا في موقف أثار احتجاج الكثير من الناشطات التركيات. حينها استند في موقفه هذا إلى أن تحديد النسل بدعة تخالف "شرع الله وسنة رسوله"، بينما هذه المرة يتحدث بصراحة عن إنجاب الأطفال كوسيلة لتوسيع النفوذ وللتأثير على مستقبل المجتمعات الأوروبية المستقبلة للمهاجرين واللاجئين، وخاصة أولئك الفارين من العالم الإسلامي المبتلي بالانفجار السكاني والحروب والصراعات الدينية والمذهبية والقمع السافر. ربما قد يقول البعض بإن الأتراك في أوروبا الغربية لا يحتاجون لدعوة أردوغان، نظرا لأنهم أصلا يتكاثرون بسرعة. من المؤكد أن الجاليات التركية والإسلامية عموما تميل بحكم التقاليد وعوامل ثقافية ودينية للإنجاب أكثر من محيطها الألماني أو الهولندي، على الرغم من أن الإحصاء الرسمي في هذه الدول لا يميز بين الولادات بحسب الانتماء الديني أو القومي. ومن دون شك تلعب في هذه البلدان الحوافز المالية الكبيرة للعوائل الغنية بالأطفال في تشجيع هذه الميل. غير أنه من الواضح أيضا أن الكثير من العوائل التركية (والعربية أيضا) تتأثر بمحيطها الاجتماعي الجديد وتبدأ بمرور الزمن بتفضيل نموذج العائلة الصغيرة والاهتمام أكثر بتربية وتعليم أطفالها. لكن ذلك لن يغير من حقيقة أن النمو السكاني في صفوف الجاليات الأجنبية، وفي مقدمتها الإسلامية، أعلى من المجتمعات الأوروبية التي تعاني بشكل واضح من تراجع عدد الولادات وتفاقم ظاهرة الشيخوخة وإقفال المدارس بسبب نقص التلاميذ وغيرها الأمر الذي يثير ردود فعل متباينة. ففي حين يدعو الكثير من الخبراء إلى تعويض هذا النقص في القارة العجوز من خلال استقبال اللاجئين والمهاجرين، يحذر آخرون وعلى رأسهم القوى اليمينية الشعبوية من مغبة ما يدعونه بخطر أسلمة أوروبا. من دون شك تأتي دعوة أرودغان الجديدة لتصب مزيدا من المياه في طاحونة اليمين المتطرف والحركات التي جعلت من مناهضة الإسلام شعارها الرئيسي. ومهما كانت المبررات لا يمكن التهوين من خطورة تصريحات أردوغان. حتى الآن كانت أحلام أسلمة أوروبا تراود بعض أئمة المساجد المتشددين في برلين أو بروكسل الذين لا يزالون يرون في الفتوحات الإسلامية "المباركة" أعظم "إنجاز" قدمه العرب للشعوب المغلوبة ويعتبرون تحول أوروبا من دار الكفر إلى دار الإسلام مسألة وقت فقط، وهو ما يتبناه أيضا أبو بكر البغدادي زعيم تنظيم داعش الذي توعد باحتلال روما. لكن دعوة أردوغان المريبة هذه لما يمكن وصفه بحرب الأرحام تأتي من رئيس أقوى دولة إسلامية اقتصاديا وعسكريا والأقرب جغرافيا إلى أوروبا. ومما يزيد من خطورتها هو أنها تندرج في سياق توتر غير مسبوق في العلاقات التركية-الأوروبية على خلفية محاولات الرئيس التركي المحمومة لخوض المعركة الانتخابية حول الاستفتاء على النظام الرئاسي في الخارج أيضا ونقل الصراعات التركية-التركية إلى ألمانيا وهولندا والنمسا وغيرها. وقد حرص أردوغان مؤخرا على مواصلة مسلسل التصعيد من خلال الاستمرار في الإدلاء بتصريحات استفزازية لا تليق برجل دولة. من الواضح أن مثل هذه التصريحات لن تخدم مصالح الجالية التركية في أوروبا التي تُعد بالملايين، وإنما ستضعها في مأزق حقيقي، لأن أردوغان يحاول إجبار أتراك أوروبا على الخيار بين الولاء لوطنهم الأصلي تركيا وبين الولاء للبلدان التي يعيشون فيها ويتمتعون بامتيازات نظامها السياسي والاقتصادي والاجتماعي. وعلى الرغم من الانقسام في مواقف أفراد الجالية التركية، إلا أنه من الواضح أيضا أن الكثيرين منهم يبدون إعجابا منقطع النظير بسلطان أنقرة الجديد ويدعمون توجهاته لتقويض التجربة الديمقراطية التركية وإقامة نظام رئاسي استبدادي مفصل على قياس أردوغان. على خلفية هذه التطورات المقلقة تعالت الأصوات في ألمانيا مثلا لمنع الجنسية المزدوجة ومطالبة الأجانب المتجنسين بالاختيار بين جنسيتهم الأصلية أو الألمانية. لكن في كل الأحوال سيبقى ذلك مجرد خطوة رمزية لن تعوض عن الأهمية القصوى لاندماج الجاليات الإسلامية في المجتمعات الجديدة وتقبلها للقيم الأوروبية، وبما يجعل الهجرة مصدر إثراء ثقافي واجتماعي واقتصادي بدلا من أن تكون مصدر تهديد. أما السؤال الأهم الذي يطرح نفسه: هل التوتر في العلاقات التركية-الأوروبية مجرد أزمة عابرة سرعان ما ستتلاشى بعد الانتهاء من الاستفتاء على النظام الرئاسي بعد قرابة شهر من الآن، أم أنه نُذر مواجهة أكبر بين تركيا وأوروبا لن تكون بعيدة عن توظيف عناصر التاريخ والجغرافية والدين الديموغرافية أيضا؟ تصعب الإجابة على هذا السؤال. لكن من المؤكد أن أردوغان عازم على توظيف الجالية التركية في أوروبا الغربية التي يزيد عددها عن خمسة ملايين نسمة في خدمة طموحاته السياسية داخل تركيا وخارجها، ولن يتورع عن استخدام أطفالها وأرحام نسائها سلاحا في "معركته المقدسة".
|