من حكايات جدتي.... السابعة عشر ملا حسن والمعلم

 

عادت جدتي الى المنزل بعد زيارته لعائلة جارنا أبو البنات بمناسبة ولادة البنت السابعة وهي تتمتم مع نفسها ولا نفهم ما تقول ويبدو عليها الانزعاج، سألتاها عن سبب انزعاجها قالت بحسرة وألم: كم رزيلة زوجة أبو البنات فقد دعت عدد كبير من نساء المحلة وقدمت لهم عزيمة الحصيني واللگلگ، سألتها ماذا تقصدين، قالت: وهو من الامثلة التي تُضرب على ألسنة الحيوانات والحصيني هو: الثعلب .

أن أحد الايام دعا الثعلب صديقه اللقلقَ الى الغذاء في بيته، وهو ينوي العبث بهِ والسخرية منهُ، فحضر اللقلق في الموعد المتفق عليه وأحضر الثعلب له مَاء لحَم في أناء ضحلٍ كبيرٍ، ووضعه  أمامهُ، وراح هوَ يلغُ في الاناءِ بلسانهِ، ولم يستطع اللقلق، أن يأكلَ شيئا فقالَ للثعلب: " يامعود، هَاي شلون سَالفه منك ؟ شلون راح آكل آني " .

فقال الثعلبُ : " انتَ حُر تريد تاكل، تريد مَاتاكل، كيفك " .

وفي اليوم التالي، أراد َ اللقلق أن ينتقم لنفسهِ، فدعا الثعلب الى الغذاء عندهُ، ووضع (مرگه) في قُمقم ذي عنُق رفيع طويل، ووضعهُ أمام الثعلب، وراحَ اللقلق يمد منقاره الطويل ويشرب المرگه فقال الثعلب: " يَامعود شلون راح آكل آني ". فقالَ اللقلق: " أنت َ حُر تريد تاكُل  أكل، تريد مَا تاكل، كيفك .

فضُرب المثل ُ بهذه العزيمه ، فقيلَ: مِثل عزيمَة الحصيني واللگلگ ضحكنا كثيرا، سألتها: ماذا قدمت أم البنات، لكم من طعام قالت جدتي: قدمت لنا قدر من الدولمة تركته فوق النار حتى احترق نصفه (أي نسته)، وبعد ان افرعته في صينية قالت: تفضلوا حبائب الاكل جاهز، من يعجبه يأكل يتفضل ؟

قلت لها: ما حكاية اليوم.

قالت :كان يا ما كان وعلى الله التكلان ،يروى والعهدة على من روى أنه في قديم الزمان وفي قرية نائية في جنوب العراق يعيش أهلها البسطاء على الفلاحة والصيد، وكلهم أميين لا يحسنوا القراءة والكتابة، ويعيش في القرية معهم رجل يدعى ملا حسن أخذ من الدين غطاءا لجهله وأميته، وصور نفسه للقرويين بأنه يقرأ ويكتب ويفهم في أصول الدين والفقه، وصدقوا القرويين بادعائه، وتكفلوا بمسكنه ومأكله ومشربه وبقية أحتياجاته.

وهكذا عاش ملا حسن سنوات سعيدة، يعني (نايم برأس الجماعة) وفجأة طرق سمع ملا حسن خبرا يفيد بأن الحكومة في بغداد عازمة على ايفاد معلم لغة عربية إلى تلك القرية لتعليم الأطفال، وثارت ثائرة ملا حسن وجن جنونه وشعر بأن وصول المعلم الى القرية يعني نهاية لدجله وخداعه لأهل القرية، وضربة قوية لمصالحه ولدخله من أهل القرية، وأخذ يضرب أخماس بأسداس ويفكر ويتربص ويحيك المؤامرات حتى وصل لفكرة وحيلة خبيثة يتخلص بها من المعلم القادم من المدينة، وهكذا أستعد لملاقاة المعلم وأنتظر على أحر من الجمر يوم وصوله الى القرية، ووصل المعلم واستقبلته القرية وذهب مباشرة لمضيف شيخ القرية وفرح به كبار القوم واستقبلوه استقبالا لائقا، وكان من ضمن المستقبلين ملا حسن، لكنه كان مستاء جدا ويبدو الحزن عليه وخائفا من فشل فكرته، وبعد أن سلّم المعلم على رجال القرية وتعرف على أسمائهم وأخذ يحدثهم أحاديث للمجاملة وعن التعليم والقراءة والكتابة، تشجع ملا حسن وأستجمع قواه وبادر المعلم بسؤال استفزازي لم يدر في خلد الأستاذ أن في يوم ما سيوجه له هكذا السؤال، سأل ملا حسن: أستاذ لا أعتقد بل آنا على يقين بأنك لا تجيد القراءة والكتابة! وأتحداك أن تكتب كلمة واحدة؟ فأستغرب المعلم ودهش من هكذا تحدي وأجاب قائلا: يا ملا حسن كيف تتحداني بهذا الشكل وآنا خريج معهد المعلمين في بغداد قسم اللغة العربية، لابد وأنك يا ملا حسن فقدت قواك العقلية لتتحداني بهذا الشكل الأستفزازي؟ فأجاب ملا حسن: يا أستاذ أنك تريد أن تستغل أمية رجال القرية لتسيطر عليهم من خلال ادعاءك بإجادة القراءة والكتابة، وأتحداك أن تكتب كلمة واحدة؟ بل أطلب منك أن تكتب كلمة حية وآنا أكتب كلمة حية (افعى) ونعرضها على القوم وهم سيقررون من منا يجيد القراءة والكتابة؟

ذهل المعلم من طلب ملا حسن، بل أستهزئ من طريقة كتابة حية وأعتبر أن الأمر سينتهي لصالحه ! ووافق على طلب ملا حسن، وأحضروا لهم ورقتين وقلمين لكليهما، وبدء المعلم يكتب حية، وكذلك قام ملا حسن بكتابة حية! وبعد الانتهاء من الكتابة قدم الاثنان ورقتيهما الى رجال القرية، وأخذ القوم يتدارسوا ويتباحثوا عن من كتب كلمة حية بشكل الصحيح، وبعد فترة قرر أهل القرية بأن حية ملا حسن كتبت بالشكل الصحيح،وأن حية المعلم لا تمت الى فصيلة الأفاعي بصلة .

فهجموا على المعلم وأشبعوه رفسا وركلا (وبهدلوه) وطاردوه حافيا خارج القرية، وشكروا ملا حسن على انقاذهم من شر المعلم، وزادوا عطائه وأكرموه أكثر من قبل، فماذا فعل ملا حسن لكي تحضا حيته بإعجاب القرية وتفوز فوزا ماحقا على حية المعلم؟ هذا ما حصل: المعلم وبحسن نية كتب حية كتابة أما ملا حسن فرسم خط متمايل على شكل حية ! وبما أن أهل القرية كلهم أميون لم يفهموا كلمة حية المكتوبة بيد المعلم ، بل حية ملا حسن كانت أقرب لعقليتهم باعتبارها رسم يشبه الحية، وهكذا نجا ملا حسن وحافظ على موقعه في القرية واستمرّ في خداع السذّج

نلتقي في حكاية جديدة من حكايات جدتي