من وحي أبتي

شرون‭ ‬عاماً‭ ‬مضتْ‭ ‬على‭ ‬جسدك‭ ‬المُزكّى‭ ‬تحت‭ ‬التراب،‭ ‬لكن‭ ‬وجهك‭ ‬الملكي‭ ‬يضيء‭ ‬كل‭ ‬يوم‭ ‬في‭ ‬ضميري،‭ ‬وأراك‭ ‬كلما‭ ‬أتطلع‭ ‬إلى‭ ‬صورة‭ ‬قبة‭ ‬جدّك‭ ‬الحسين‭ ‬ع،‭  ‬أنتَ‭ ‬بشهادة‭ ‬الذين‭ ‬رافقوا‭ ‬حياتكَ،‭ ‬أطيبهم‭ ‬قلباً،‭ ‬وأكثرهم‭ ‬كرماً،‭ ‬وأرجحهم‭ ‬شجاعة،‭ ‬أمّا‭ ‬عني‭ ‬أنا‭ ‬ولدك‭ ‬المجنون،‭ ‬لم‭ ‬أصل‭ ‬حتى‭ ‬إلى‭ ‬شسع‭ ‬نعليك،‭ ‬أذكر‭ ‬عندما‭ ‬كنتُ‭ ‬طفلاً‭ ‬كيف‭ ‬تأخذني‭ ‬معك‭ ‬ليلاً‭ ‬إلى‭ ‬مشروع‭ ‬الماء‭ ‬في‭ ‬أبو‭ ‬صخير‭ ‬حيث‭ ‬تعمل،‭ ‬هدير‭ ‬مكائن‭ ‬الديزل‭ ‬التي‭ ‬تغذي‭ ‬الكهرباء‭ ‬إلى‭ ‬بيوتات‭ ‬القضاء‭ ‬كنت‭ ‬أعشقها‭ ‬وكنتَ‭ ‬تعرف‭ ‬ذلك،‭ ‬تدعني‭ ‬استحم‭ ‬بماء‭ ‬دافىء‭ ‬ودافق‭ ‬يأتي‭ ‬من‭ ‬محركات‭ ‬الديزل‭ ‬ثم‭ ‬تفرش‭ ‬بطانية‭ ‬بجوارها‭ ‬لأنام‭ ‬عليها‭ ‬لأستمتع‭ ‬بصوتها‭ ‬الهادر‭ ‬حتى‭ ‬أغفو،‭ ‬ياه‭ ‬كم‭ ‬أعشق‭ ‬صخب‭ ‬مضخات‭ ‬الماء‭ ‬وهدير‭ ‬الشلال‭ ‬وصوت‭ ‬القطار‭ ‬وزعيق‭ ‬مشعل‭ ‬النار‭ ‬في‭ ‬تنور‭ ‬حتى‭ ‬الآن،‭ ‬وحين‭ ‬يصلنا‭  ‬كيس‭ ‬من‭ ‬الشلب‭ ‬هدية‭ ‬لاخلاصك‭ ‬من‭ ‬أهالي‭ ‬غمّاس‭ ‬يوم‭ ‬كنت‭ ‬تعمل‭ ‬هناك‭ ‬في‭ ‬انارة‭ ‬الضوء‭ ‬لهم،‭ ‬كانت‭ ‬أمي‭ ‬تصطحبني‭ ‬معها‭ ‬لجرش‭ ‬الشلب‭ ‬في‭ ‬مجرشة‭ ‬أبو‭ ‬صخير‭ ‬حتى‭ ‬أنام‭ ‬على‭ ‬صوتها‭ ‬الصاخب،‭ ‬وبسبب‭ ‬نضالك‭ ‬الشرس‭ ‬ضد‭ ‬الظلم‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬سنوات‭ ‬الخمسينيات‭ ‬جعل‭ ‬الحكومة‭  ‬تبعدك‭ ‬عن‭ ‬مدينتك‭ ‬كربلاء‭ ‬إلى‭ ‬الشنافية‭ ‬وغمّاس‭ ‬حتى‭ ‬استقرينا‭ ‬في‭ ‬أبو‭ ‬صخير‭ ‬حيث‭ ‬أنجبتني‭ ‬أمي‭ ‬الحبيبة‭ ‬في‭ ‬عام‭ ‬1960،‭ ‬أحبك‭ ‬أهالي‭ ‬أبو‭ ‬صخير‭ ‬بشدّة‭ ‬لنبلك‭ ‬وصدقك‭ ‬وطيبتك‭ ‬النادرة،‭ ‬حد‭ ‬أنك‭ ‬فضّلت‭ ‬الغريب‭ ‬على‭ ‬أخينا‭ ‬محمد‭ ‬في‭ ‬التعيين‭ ‬كعامل‭ ‬خدمة‭ ‬في‭ ‬البلدية،‭ ‬ولما‭ ‬عاتبتك‭ ‬أمي،‭ ‬أجبتها‭ ‬أن‭ ‬محمدا‭ ‬يأكل‭ ‬لقمته‭ ‬معنا‭ ‬أما‭ “‬هتوفي‭”‬‭ ‬الذي‭ ‬رشحته‭ ‬للتعيين‭ ‬يتيماً‭ ‬ولا‭ ‬يجد‭ ‬ما‭ ‬يسد‭ ‬رمقه؟‭ ‬هتوفي‭ ‬أصبح‭ ‬من‭ ‬أكبر‭ ‬التجار‭ ‬في‭ ‬مطلع‭ ‬التسعينيات؟‭! ‬كنتَ‭ ‬يا‭ ‬أبتي‭ ‬شغوفاً‭ ‬في‭ ‬المطالعة،‭ ‬ويذكر‭ ‬أهالي‭ ‬أبو‭ ‬صخير‭ ‬أنك‭ ‬من‭ ‬أسست‭ ‬مكتبة‭ ‬في‭ ‬مسجد‭ ‬القضاء‭ ‬ووضعت‭ ‬كتاب‭ ‬المراجعات‭ ‬كأول‭ ‬كتاب‭ ‬على‭ ‬رفوفها؟‭ ‬ولذا‭ ‬ليس‭ ‬عجباً‭ ‬أن‭ ‬تضع‭ ‬ديناراً‭ ‬من‭ ‬مرتبك‭ ‬الشهري‭ ‬كتأمينات‭ ‬في‭ ‬مكتبة‭ ‬القضاء‭ ‬الحكومية‭ ‬مقابل‭ ‬استعارة‭ ‬أطفالك‭ ‬لمجلات‭ ‬سوبرمان‭ ‬وسمير‭ ‬في‭ ‬بداية‭ ‬السبعينيات‭ ‬برغم‭ ‬دخلك‭ ‬المحدود،‭ ‬أنت‭ ‬الذي‭ ‬لم‭ ‬تحصل‭ ‬إلا‭ ‬على‭ ‬شهادة‭ ‬الابتدائية،‭ ‬لكن‭ ‬خطّك‭ ‬الرشيق‭ ‬كان‭ ‬يثير‭ ‬اعجاب‭ ‬الناس‭ ‬حين‭ ‬تكتب‭ ‬على‭ ‬الورقة،‭ ‬أحالتك‭ ‬حكومة‭ ‬البعث‭ ‬المجرم‭ ‬على‭ ‬التقاعد‭ ‬عنوة‭ ‬لأنك‭ ‬من‭ ‬بيت‭ ‬النوّاب،‭ ‬وهكذا‭ ‬عدنا‭ ‬إلى‭ ‬مدينة‭ ‬مولدك‭ ‬كربلاء‭ ‬مرة‭ ‬أخرى،‭ ‬كنت‭ ‬يا‭ ‬أبتي‭ ‬طوال‭ ‬الطريق‭ ‬واجماً‭ ‬لأنك‭ ‬تركت‭ ‬هذه‭ ‬المدينة‭ ‬الساحرة‭ ‬بكل‭ ‬شيء،‭ ‬بينما‭ ‬كنت‭ ‬اتفادى‭ ‬البكاء‭ ‬لأني‭ ‬لم‭ ‬أعد‭ ‬أرى‭ ‬التي‭ ‬عشقتها‭ ‬هناك‭ ‬برغم‭ ‬صبابتي‭ ‬في‭ ‬ذلك‭ ‬الوقت،‭ ‬ولما‭ ‬وصلنا‭ ‬إلى‭ ‬كربلاء‭ ‬لم‭ ‬نجد‭ ‬سوى‭ ‬بيت‭ ‬جدي‭ ‬الهرم‭ ‬الكائن‭ ‬في‭ ‬باب‭ ‬العلوة‭ ” ‬باب‭ ‬بغداد‭” ‬يأوينا،‭ ‬أنت‭ ‬الذي‭  ‬تركت‭ ‬لك‭ ‬أمك‭ ‬الأميرة‭ “‬حُسنى‭” ‬ثروة‭ ‬باذخة،‭ ‬ضاعت‭ ‬بعضها‭ ‬في‭ ‬لهوك‭ ‬وعبثك‭ ‬أيام‭ ‬شبابك،‭ ‬وما‭ ‬تبقى‭ ‬منها‭ ‬بستان‭ ‬فاكهة‭ ‬بعته‭ ‬حتى‭ ‬تحصل‭ ‬ابنة‭ ‬عمتك‭ ” ‬أنسيه‭” ‬على‭ ‬شهادة‭ ‬الدكتوراه‭ ‬في‭ ‬الفيزياء‭ ‬من‭ ‬أمريكا،‭ ‬لقد‭ ‬بعت‭ ‬بستانا‭ ‬لايقدر‭ ‬بثمن‭ ‬في‭ ‬وقتنا‭ ‬الحاضر‭ ‬وكان‭ ‬موقعه‭ ‬يقابل‭ ‬مرآب‭ ‬كربلاء‭ ‬القديم‭ ‬بثمانين‭ ‬دينار‭ ‬فقط‭ ‬كما‭ ‬أخبرتني‭ ‬حتى‭ ‬تكمل‭ ‬ابنة‭ ‬عمتك‭ ‬أنيسه‭ ‬دراستها،‭ ‬والتي‭ ‬هي‭ ‬أخت‭ ‬الاعلامي‭ ‬الرياضي‭ ‬المعروف‭ ‬ضياء‭ ‬المنشىء،‭ ‬الذي‭ ‬زارك‭ ‬في‭ ‬مطحنة‭ ‬الروضتين‭ ‬في‭ ‬كربلاء‭ ‬حيث‭ ‬كنت‭ ‬تعمل‭ ‬بداية‭ ‬الثمانينيات،‭ ‬ليشكرك‭ ‬على‭ ‬كرمك‭ ‬السخي‭ ‬ولكي‭ ‬يعرف‭ ‬منك‭ ‬ما‭ ‬لم‭ ‬يعرفه‭ ‬عن‭ ‬سيرة‭ ‬والدته‭ ‬من‭ ‬شجرة‭ ‬بيت‭ ‬النوّاب،‭ ‬وأنت‭ ‬يا‭ ‬أبتي‭ ‬سليل‭ ‬الملوك‭ ‬وأمك‭ ‬الأميرة‭ ‬حُسنى‭ ‬،جدّتها‭ ‬من‭ ‬وهبت‭ ‬خلخالها‭ ‬الماسي‭ ‬محبة‭ ‬للحسين‭ ‬ع،‭ ‬حين‭ ‬زارت‭ ‬كربلاء‭ ‬بقافلة‭ ‬ملكية‭ ‬من‭ ‬الهند‭ ‬إلى‭ ‬كربلاء‭ ‬وبثمن‭ ‬خلخالها‭ ‬شُقَّ‭ ‬نهراً‭ ‬لأهالي‭ ‬طوريج‭ ‬أطلقوا‭ ‬عليه‭ ‬نهر‭ ‬الهندية،‭ ‬لكن‭ ‬الدهر‭ ‬خاصمك،‭ ‬فقضيت‭ ‬آخر‭ ‬أيام‭ ‬عمرك‭ ‬تحرس‭ ‬بوابة‭ ‬عمارة‭ ‬الأطباء‭ ‬بشارع‭ ‬طويريج،‭ ‬الذي‭ ‬نهرها‭ ‬كان‭ ‬من‭ ‬ثروة‭ ‬جدّتك‭ ‬الأميرة،‭ ‬أذكر‭ ‬في‭ ‬مراهقتي‭ ‬يوم‭ ‬أخذتني‭ ‬ليلة‭ ‬العيد‭ ‬واشتريت‭ ‬لي‭ ‬سترة‭ ‬من‭ ‬محل‭ ‬لبيع‭ ‬الملابس‭ ‬المستعملة،‭ ‬وبقدر‭ ‬ما‭ ‬كنت‭ ‬فرحا‭ ‬سقطت‭ ‬دمعة‭ ‬على‭ ‬خدّك،‭ ‬وحين‭ ‬سألتك‭ ‬لم‭ ‬تبك‭ ‬ياأبتي؟‭ ‬اجبتني‭ ‬كنت‭ ‬أتمنى‭ ‬أن‭ ‬اشتري‭ ‬لك‭ ‬سترة‭ ‬جديدة‭ ‬ياولدي‭. ‬أجل‭ ‬يا‭ ‬أبتي‭ ‬لم‭ ‬ينصفك‭ ‬الزمان‭ ‬لكن‭ ‬أصدقاءك‭ ‬القدماء‭ ‬لن‭ ‬يتخلوا‭ ‬عنك،‭ ‬إذ‭ ‬كان‭ ‬يتفقدك‭ ‬بين‭ ‬حين‭ ‬وآخر‭ ‬الشيخ‭ ‬عبد‭ ‬الخالق‭ ‬الحميري‭ ‬صديق‭ ‬طفولتك،‭ ‬تاركاً‭ ‬كل‭ ‬ثروته‭ ‬والجاه‭ ‬ليجلس‭ ‬معك‭ ‬على‭ ‬عتبة‭ ‬عمارة‭ ‬الأطباء‭ ‬مسترجعا‭ ‬معك‭ ‬ذكريات‭ ‬تعرفونها‭ ‬وحدكما،‭ ‬وكان‭ ‬الناس‭ ‬يتعجبون‭ ‬كيف‭ ‬لشيخ‭ ‬ثري‭ ‬يجلس‭ ‬مع‭ ‬حارس‭ ‬معدم‭ ‬أمام‭ ‬مرأى‭ ‬الجميع،‭ ‬ولهم‭ ‬الحق‭ ‬في‭ ‬ذلك،‭ ‬فهم‭ ‬لا‭ ‬يعرفون‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬الحارس‭ ‬العجوز،‭ ‬أنما‭ ‬هو‭ ‬سليل‭ ‬ملوك‭ ‬مازالت‭ ‬ثروتهم‭ ‬قائمة‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬لكنو‭ ‬الهندية؟‭ ‬ولكن‭ ‬مَنْ‭ ‬ذريته‭ ‬يفكر‭ ‬بالثروة‭ ‬؟‭ ‬حتى‭ ‬يذهب‭ ‬إلى‭ ‬هناك‭ ‬ويستغني‭ ‬منها،‭ ‬لا‭ ‬أحد‭!! ‬لأن‭ ‬وطنهم‭ ‬العراق‭ ‬عندهم‭ ‬أعظم‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬ثروات‭ ‬الأرض‭. ‬اشتقت‭ ‬اليك‭ ‬ياأبتي‭..‬فمتى‭ ‬أراك؟