الأنماط السردية السبعينية في العراق.. رواية (الخراب الجميل) انموذجا |
تميزت الرواية السبعينية في العراق، بسعة افقها، وتشعب القضايا التي تناولتها، وخروجها عن الحيز المكاني والأفق الأيدلوجي للبيئة المرافقة لها، وتعدد الانماط السردية والفكرية التي تناولتها، كونها تماشت مع النهضة الفكرية والثقافية التي كانت تجتاح المحيط العربي انذاك، وتوحد القضايا المصيرية التي تشغل الرأي العام فيه، بغض النظرعن الانتماء العرقي والديني والطائفي، و قد انعكس هذا على الوجه العام للأدب العربي، وتأثر به السرد العراقي بصورة كبيرة، فنجد معظم روايات تلك المرحلة طغى على وجهها العام النضوج في الطرح، وعمق القضايا التي تناولتها وشموليتها، وانشغالها بسرديات العرب الكبرى ( الوحدة العربية، لتنمية، القضية الفلسطينية، ومناصرة حركات التحرر في العالم الثالث) .. هذا التوجه خلق نوع من الوئام بين الكاتب ومجتمعه، فأنتج هذا الوئام، نصوص سردية يكون فيها البطل كمحصلة نهائية، في حالة تصالح مع بيئته، ويمتلك نظرة ايجابية اتجاه محيطه الاجتماعي، بعكس السرد الستيني الذي تميز بالعزلة الفكرية التي تفرض نفسها على البطل بسبب التباين الثقافي بينه وبين بيئته الاجتماعية، وانزوائه مع رؤاه وأفكاره الخاصة حتى غدا لامنتميا، إضافة إلى إن السرد في سبعينات القرن الماضي، تفرد بالحرص الشديد من الكاتب على أن يكون السياق العام للإحداث، ضمن نسق فكري مقيد بثوابت اجتماعية وسياسية لا يمكن تجاوزها أو الالتفاف عليها .. وتعد رواية ( الخراب الجميل ) للروائي احمد خلف ، والتي كتبت بين عامي (1977- 1979) وصدرت عام 1981 عن دار الرشيد، أنموذجا متقدما لهذا النمط السردي في تلك المرحلة.. تناول فيها الروائي ثيمة تتلائم مع الانزياحات الفكرية والاجتماعية والسياسية التي كانت تهيمن على العقل الجمعي العراقي، فاختار مجموعة من الصحفيين العاملين في مجلة حكومية ليشكلوا البنية التكوينية للنص كما عبر عنها الناقد لكولد هان.. ( محمود، مها، ليلى، يوسف، خالد)، هؤلاء النخبة المثقفة زجهم احمد خلف في مقتربات عاطفية وتقاطعات فكرية ونفسية، أنتجت نصا ناضجا غنيا بالدوال الحسية المفعمة بالأمل والتطلعات الجميلة والمنتجة، فكان الصحفي (محمود)، ابن العائلة البسيطة المهاجرة من الريف إلى المدينة، محور هذا النص والبطل الإشكالي، الذي يعشق أكثر من فتاة في آن واحد ( ليلى ، مها، جيني) ، ويعاقر الخمر بنهم، ويكرر تأجيل مشاريعه المهمة والمفصلية في حياته الادبية والمهنية، والذي تربطه علاقة متذبذبة مع أسرته.. هذه الشخصية المستديرة ( الديناميكية) كما أطلق عليها (فوستر) ، هي شخصية نامية ثلاثية الأبعاد، تتميز بقدرتها على التطور في سياق الفعل، وغناء الحركة داخل العمل السردي، وقدرتها العالية على تقبل العلاقات مع الشخصيات الأخرى، فكان عشقه للمسرح وليلى، عاملان رئيسيان مؤثران في حياته، وفي تحديد ملامح سلوكه الاجتماعي وتعاطيه مع الآخر، أو كما عبر عنهما الناقد عبد الإله احمد (القوى الكبيرة المؤثرة في حركة البطل داخل النص) .. هذا العشق قد تماهى مع شخصيته الشجاعة والمغامرة والمعقدة (لا يمكنه أن يركز عند شيء معين ، كل شيء متغير ولا يستقر عند مرساة قط).. هذه الصورة المتغيرة التي يمتلكها البطل محمود عما يدور حوله ويحيط به ، خلقت نوع من التدرج الفكري والعاطفي لديه، فنجد انتقاله خلال سياق النص من إدانته لنفسه، إلى البحث عن حلول لهزائمه، وفق تسلسل حكائي تضامني، وقد انعكس هذا النسق السردي (التسلسل الموباساني) على أبطال الرواية الآخرين، فنجدهم قد وصلوا إلى نهاياتهم وتحددت مصائرهم، وفق أحلامهم ورؤاهم الشخصية وتطلعاتهم .. (يوسف) تحقق حلمه بالسفر إلى البلدان البعيدة، (مها) تزوجت من شخص آخر بعد فشل علاقتها بمحمود، (خيرية) زوجة شقيق محمود استمرت في عملها في معمل الخياطة بعد أن تقبل أهل زوجها هذا الأمر على مضض، وعند وصول النص إلى ذروته فجر لنا الروائي احمد خلف الحدث الأهم ، وهو اتفاق محمود مع حبيبته ليلى على الزواج، هذه الخطوة المفاجئة والتي لم ندرك جديتها بالنسبة إلى الاثنين، فكلاهما شخصيتين قلقتين، منسلختين، متحررتين إلى مدى بعيد، وهذا بدا واضحا حين مزقت (ليلى) رسالة حبيبها السابق يوسف أمام أنظار الجميع معلنة انتهاء علاقتها معه، وبداية عهد جديد لعلاقة ستحمل بعض من الاستقرار العاطفي والاجتماعي مع محمود.. استخدم الروائي في نصه، تقنية السارد العليم (السارد الخارجي) ولغة حوار مدببة، تشير إلى قصدية النص، وملائمتها لطبيعة المتكلم ومستواه الثقافي.. وهنا لابد من الإشارة إلى بعض المحاور المهمة في الرواية، من حيث الأسلوب، واللغة ،والإرهاصات النفسية والسلوكية لبعض أبطال الرواية، التي رافقت بناء النص: |