مطاردة المبدعين

 

لا كارثة أكثر قسوة وحرمانا للمجتمع والدولة من الوقوف في سبيل مبدع يتطلع الى تقديم عصارة ذهنه لوطنه وشعبه وتحقيق ذاته، بينما يقف اميون لايجيدون تسطيرعبارة مفيدة او خالية من الاخطاء الاملائية في مقدمة الصفوف يتحكمون بمصائر المبدعين ويغلقون بوجوههم كل الأبواب التي يمكن ان يُطل من خلالها المبدعون لحياة لها معنى، وأعجب من ذاك الذي يدعي نفسه مبدعا، بينما هدفه لايعدو سوى مطاردة المبدعين، والتفنن في ايجاد العثرات الكأداء في طريقهم، هل يمكن ان يكون المبدع حسودا وحقودا فيما تدور انشغالاته حول الجمال والقيم السامية والمعاني النبيلة، هل في الثقافة حقل للانتقام ؟ كيف وصل الاميون الى قمة الهرم، وكيف تسلق ادعياء الابداع سفوحه ؟

 

قلائل اولئك الذين يمكن تصنيفهم ضمن المبدعين والأكفاء الذين سنحت لهم الفرصة لان يكونوا في دوائر صنع القرار، بدلالة الفشل المريع الذي نراه في جميع مفاصل الحياة، ومثل هؤلاء لن يكونوا بقادرين على أداء أدوارهم لخلق حياة بهيجة، لان منظومة الفاشلين أحكمت الطوق عليهم، بما جعلهم امام خيارين لاثالث لهم : اما الاندماج في منظومة الفشل والفساد اذا هيمنت عليهم رغبة البقاء في مواقعهم، او ترك تلك المواقع لاخرين من تلك المنظومة اذا ارادوا الحفاظ على قوت عيالهم وسلامتهم، أو ممارسة  أدوار ايجابية من مناطق الظل، فيُسجل النجاح للفاشلين الذين يقفون كنبتة عباد الشمس فخورين بالانجاز الذي يدعون وسط دهشة المتفرجين وحسرة المبدعين.

 

حياتنا مكتظة بالحكايات التي تجسد ما أقول، ان لم تكن جل الحكايات من هذا القبيل،ولا أظن ستثيركم حكاية صاحبي الذي يمنعه رئيسه الذي يصنف نفسه مبدعا من الكتابة، وبعكسه سيواجه عقوبات لايتوقعها، مع انه كاتب محترف لايقل كفاءة عن الكثير من الكتاب الذين يشار لهم بالبنان، او ذاك الفاشل الذي رفضت ان يعمل محررا في جريدتي لافتقاده كل ما يمت للعمل الاعلامي بصلة، واذا به بعد حين يعيّن مديرا لمكتب اعلامي في  إحدى أهم العواصم العالمية، مثل هذا لايعد ولا يحصى في الاعلام والسياسة والاقتصاد وغيرها من المجالات، ما جعل الحلم بحياة رغيدة خالية من القلق والحرمان أشبه بالمستحيل، فالعمر أوشك على نهايته ولم يتحقق مما نتطلع اليه شيئ، وهكذا حال الاجيال التي سبقتنا، والامر نفسه ينطبق على اللاحقين اذا لم نغير من نمط معاييرنا في اختيار الاشخاص الأكفاء الذين يليق بهم قيادة مسيرة حياتنا.

 

ان عدم جديتنا في المعايير الصارمة لاختيار صناع القرار المبدعين اضاعت علينا عقوداً، فمنذ الخمسينات ونحن نراوح مكاننا، نخطو الى الخلف اكثر مما نخطو الى الامام، وفي أوقات معينة صار الخطو فيه الى الخلف فقط، لا أحد يريد ان يدرك ان بناة العالم افراد وليس جماعات، وهؤلاء حصرا من المبدعين وليسوا من الذين يجيدون مسح الاكتاف او الذين يمتلكون مهارة ان يكونوا تحت الابط في كل زمان ومكان.

 

واذا كان خرق المعايير او غيابها او عدم ملائمتها للمجال ديدن العقود التي مرت في اختيار القادة، فاليوم اضيفت لها اشتراطات جديدة لاوجود لها في القوانين التي شرعناها لانفسنا، بل صارت عرفا، لها من التأثير ما يفوق قوة القانون، ومثالها التوازن الطائفي والانتماءات الحزبية، والارتباط بالجهات المسلحة وغيرها كثير، حتى غدت هذه الأعراف معيارا للاختيار، وما عداها لاقيمة حقيقية له، وكأن الهدف هو الامساك بزمام الامور، وليس صناعة حياة  وبث السرور في النفوس والمحافظة على كرامة الانسان واحترام خياراته.

 

ما يؤسف له ان المبدعين يموتون غرباء، او يرزحون تحت شظف العيش، او مهمشين لايقوون على عمل شيء، او يخدمون الآخرين وعيونهم على وطن جريح  وشعب لايدري ماذا يفعل للخلاص، ثقوا : لانجاة الا بتعبيد الطرق امام المبدعين والأكفاء، وذلك لن يكون من دون ابعاد المعايير عن التوظيف السياسي، فبهذا أحكم الفاشلون اغلاق أبواب التغيير.