في رثاء الزمن الجميل

 

ها نحن  نعود الى الرثاء. لقد تركنا الغزل والوصف والهجاء خلف ظهورنا ، وولجنا عالم الرثاء من جديد . انه زمن لا ينفع معه سوى الرثاء ، لأننا لم نعد نرى امامنا سوى الغثاء والعناء والهباء . ولكن من نرثي ومن يسمع رثاءنا ، وأي صدى لكلمات الفجائع والمنغصّات . هذا العالم الذي سميناه العالم العربي ، كما سموه من عاشوا قبلنا بمئات السنين ،يتثلم ويتفكك ويتجزأ ، يوماً بعد يوم وتظهر فيه وعليه علامات الامراض المستعصية والمزمنة ، إرهاباً وبطشاً وسبياً وتفكيكاً لا تنفع معه أدوية المختبرات الطبية ، ولا علاجات الاعشاب ولا سواها مما يشفي المريض من علّته ، وها نحن نرثي الحجر والبشر ، بعد ان تحولت المدن الى خرائب لا تعيش فيها سوى الخفافيش بعد أن نزح أهلها عنها واستوطنوا الخيام في الصحارى ، لمن سلم منهم من الموت والقتل والنحر ، حين داست أراضيها سنابك خيول التتار الجدد. إنظر حواليك فماذا ترى ، الجدران لم تعد جدراناً والبيوت لم تعد بيوتاً والشوارع استحالت الى حفر عميقة اصابتها القنابل والصواريخ وها هو الموت يتسارع في السير على احجارها وزواياها وسطوحها الساقطة الى الارض ولا من رادع له ، الا اولئك الذين فدوا التراب بأرواحهم وهم يحررون ما تبقى من ارض بيد طغمة الارهاب لكي يطردونهم شر طردة ويقتنصونهم زرافات ووحداناً ويذيقونهم الموت الزؤام نكالاً بما فعلت عقولهم العفنة واياديهم الرخيصة التي باعوها للشيطان . الاب يرثي ابنه الشهيد ، والاخ يرثي اخيه الشهيد ، والمرأة ترثي زوجها الشهيد ، والابن يرثي اباه الشهيد والام ترثي وليدها الشهيد والجار يرثي جاره الشهيد ، وتستمر لغة الرثاء ، لافتات سود على الجدران ، وكلمات ونبضات دامية في القلوب ودموع لا تجف في العيون ، ورثاء يتبعه رثاء في البشر ، لكي نرثي معهم المدن والازقة والحواري والمدارس والجامعات ، لنقول جميعاً ( ربي اني مسّني الضّر وانت ارحم الراحمين). بل ان فينا من صار يرثي نفسه وهو ما يزال حياً يرزق لم يدفن بعد في قبر ولم يُحمل بعد على الآلة احدباء ، تماماً كما فعل مالك بن الريب وهو يرثي نفسه مخاطباً صاحبيه :

 

خذاني فجّراني ببردي اليكما

 

فقد كان قبل اليوم صعباً قيادياً

 

في قلوبنا الراحلون الى العلياء . في قلوبنا ايها الواقفون على ايامنا تعدّون لنا ساعة النصر القادمة ، فيطيب لكم وفيكم الرثاء ايها الغادون وانتم تصنعون لنا مستقبلاً من نوع آخر .