التطرف والتعسف والتأفف

التطرف اصبح آفة. آفة تهدد وجودنا بعد أن انتقل من السلوك الفردي الى الجمعي. كل عراقي مشروع زعيم. وكل زعيم مشروع دكتاتور. وكل دكتاتور مشروع طاغية. كلنا نريد محاربة  التطرف. ننشئ الجمعيات والاحزاب والمنظمات . نقيم المؤتمرات والندوات. نطلق النداءات والدعوات. ندعو الخصوم ان ياتوا الى كلمة سواء بصرف النظر عن طبيعة الخلافات والمشاكل التي فرقتهم. ومن هو على حق او على باطل. نتمنى على رجال الدين ان يكونوا قدوة حسنة في لجم التطرف ودعاته. وان ينهضوا بدورهم دون ان نكلف انفسنا التفريق بين المعتدلين منهم والمتطرفين. 
دعواتنا لمحاربة التطرف كثيرا ما تستند الى النوايا الحسنة فقط. جميعنا لدينا نوايانا الحسنة في ان تسود لغة التفاهم والحوار والوئام بين الجميع. غالبا ما نسمي ذلك الوسطية والاعتدال. المشكلة اننا نكره التطرف لمجرد انه تطرف دون معرفة اسبابه ودوافعه. ونحب الوسطية لمجرد ان اسمها وسطية وكأنها حد فاصل بين مفهومين متضادين.. تطرف يقابله اعتدال. ننطلق في فهم الوسطية من المفهوم القراني “وجعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس” (البقرة ـ 143 ). وقد شرق المفسرون والمفكرون والفقهاء وغربوا في تحليل مضمون هذه الاية كعادتهم دون ان يعطوا القول الفصل الذي يمكن ان يكون موضع اتفاق ولو نسبي. وهذا ديدن المفكرين والمفسرين والباحثين وتاليا رجال الدين من اهل المنابر والدعاة ممن باتوا يشيعون مفاهيم الاعتدال والوسطية مقارنة بمفاهيم التطرف بل وحتى الارهاب. حتى مفردة الارهاب نفسها هناك من اخرجها من سياقها القراني على صعيد مفهوم كيفية الاستعداد للعدو”ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم” (سورة الانفال ـ 60) وجعل منها منظومة فكرية كاملة انتجت لنا كل هذا التطرف الذي نعاني منه وندفع ثمنه الباهظ.
ولاننا حين نتعامل مع هذه المفاهيم والمفردات سواء في سياق مفهوم معجمي لها خارج سياق الدلالات المعرفية والسلوكية او في سياق توظيف مقصود لهذه الدلالات بمحمولات فكرية مع ازاحات لغوية لكي تبقى خارج سياقها النصي المتداول فاننا كثيرا ما نتعسف في هذا الفهم حين نبث فيه كل انواع الكراهية دون ان ندري, ثم نعود لنتأفف فيما بعد عندما يقع الفأس بالرأس. 
فلو عدنا الى نشاتنا البيتية والمناطقية وسلسلة بيئاتنا الدينية والمذهبية والعشائرية وما ينتج عنها من خزين اجتماعي يقوم على نوع من التمترس السلوكي والقيمي داخل الاسرة ومن ثم المدرسة فان النتيجة الوحيدة التي نخرج بها من كل ذلك هي مجموعة عقد تحكم لغتنا وخطابنا شئنا ام  
ابينا. 
ولان كل هذا الخزين من المفاهيم والافكار والسلوكيات والقيم يتم التواطوء عليها من قبلنا جميعا.. الاب والام والمعلم والحلاق والبقال وسائق التاكسي وبائع النفط والغاز وابو “العتيك للبيع” والخاطبة والقابلة المأذونة فانها تتحول  الى نوع من المسكوت عنه, لان البوح يكشف المستور فيظهر عجزنا الحقيقي عن مواجهة العلة واسبابها وطرق معالجتها عن طريق مفردة واحدة هي التسامح.