زيارة الشراكة الستراتيجية

لم ترقَ للكثيرين ممن اعتاشوا على خلق الأزمات وتأجيجها، تلك البراغماتية الواسعة والانفتاح المرن الذي شاب الحراك السياسي لرئيس الوزراء د. العبادي مؤخرا سواء على الداخل أم باتجاه الخارج، وهؤلاء اعتادوا على التكسّب السياسي وتفعيل الأزمات وراء الكواليس المعتمة وزيادة معاناة المواطن بخلق أزمات مع بقية المكونات السياسية وذلك بتحشيد الرأي العام ووسائل الإعلام أو بتجييش الشارع المحتقن والمنهوك امنيا واقتصاديا لأغراض سياسية فضلا عن افتعال المشاكل مع دول الجوار والمحيط الإقليمي. فان كانت المنفعة هي جوهر الفلسفة البراغماتية فان مصلحة الشعب العراقي العليا هي جوهر وهدف براغماتية وانفتاح العبادي، إذ لم يشهد العراق ولعقود أية علاقات طبيعية ومتوازنة مع الخارج لا سيما مع دول الجوار ناهيك عن الدول العظمى صاحبة القرار الاممي كما لم يشهد بعد التغيير النيساني أي انسجام او وئام سياسي بين مجتمعه الأهلي ومجتمعه السياسي فلا يزال التناشز بين الشارع العراقي وبين طبقته السياسية قائما حتى الآن.
أسوق هذه المقدمة لأعرّج على أهمية الانفتاح الأخير للعبادي ومن خلال زيارته الأخيرة والناجحة الى اميركا ولقائه الرئيس ترامب بدعوة رسمية منه وهي الأولى من نوعها لمسؤول عربي رفيع المستوى، فهي بالتأكيد لم تكن مجرد زيارة بروتوكولية روتينية بل كانت زيارة عمل ستراتيجية وتاريخية وشاملة في الوقت نفسه وحان قطاف ثمارها كونها جاءت تلبية لدعوة مقدّمة من حكومة اكبر واهم دولة في العالم الى حكومة بلد كان ولا يزال متصدّرا ساحة الحرب على الإرهاب، إن لم يكن يقاتل نيابة عن العالم اجمع ومنه الولايات المتحدة نفسها زعيمة العالم الليبرالي الحر، فنجاح زيارة العبادي يتأتّى من حزمة الملفات الستراتيجية والمهمة التي حملها الى البيت الأبيض الذي استُقبل فيه بحفاوة بالغة، ومن حزمة (التعهّدات) و(التأكيدات) التي حصل عليها من الرئيس ترامب نفسه او من الشخصيات رفيعة المستوى التي قابلها في مضمار زيارته التاريخية هذه، وتكتسب زيارة العبادي صفة الشمولية من طبيعة هذه الملفات ومدى مساسها بالشأن العراقي كالملف الاقتصادي والأمني والعسكري والتسليحي والتدريبي وحتى الثقافي وتستمدّ هذه الزيارة ستراتيجيها من كونها حملت الملف الأهم والأكثر خطورة من حيث تداعياته على الشأن العراقي خاصة وان العراق يخوض حربا ضروسا ضد داعش ويعيش لحظات الترقّب لإعلان انتصاره الوشيك والأكيد ضد هذا التنظيم الذي بدأ يلفظ أنفاسه الأخيرة في الموصل، كما حملت الزيارة ملف تفعيل الاتفاقية شبه المجمّدة بين العراق واميركا بسبب إهمال مسؤولي البلدين لها. لقد كانت اتفاقية الإطار اتفاقية الإطار الستراتيجي (أبرمت عام 2008) والحرب مع داعش هما جوهر رحلة العبادي الناجحة الى واشنطن وقد اختصر الرئيس ترامب بجدية واضحة رد حكومته على فحوى الزيارة بأن (الولايات المتحدة تلتزم مع العراق اليوم بشراكة شاملة تقوم على الاحترام المتبادل في ضوء اتفاقية الإطار الستراتيجي التي تحدد أطر التعاون في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية) ومتعهّدا باستمرارها بل وبزيادة التعاون المستقبلي في ضوئها فيما أكد ترامب وعوده السابقة بضرورة التخلّص نهائيا من داعش ولا مكان لهذا التنظيم على كوكبنا.
تعدد مراكز القرار الأميركي العليا التي التقاها العبادي ضمن برامجه البروتوكولي يكشف عن أهمية العراق كدولة شريكة وحليفة ستراتيجية للولايات المتحدة التي هي بيضة القبان في علاقات العراق الخارجية والتي تصب في مصلحة العراق وشعبه كدولة عظمى وراعية التغيير لا سيما في الجوانب الأمنية والاقتصادية والاستثمارية، فالعراق لا يزال في امسّ الحاجة الى تلك الشراكة الستراتيجية وفعلا فقد تم الاتفاق على استمرار تلك الشراكة بين البلدين وعلى المدى البعيد لاستئصال جذور الإرهاب تماما كون الإرهاب يمثّل هاجسا امنيا خطيرا ومشتركا بين البلدين فيستدعي تضافر جهودهما معا لاجتثاثه، فضلا عن الاستمرار بتعزيز قوة العراق عسكريا وامنيا واقتصاديا وتسليحيا مع ضمانة بعيدة المدى بالالتزام بتلك الشراكة على ضوء اتفاقية الإطار الستراتيجي وتعزيز قوة العراق بالتعاون مع الشركاء الـ(68) المنضوين في التحالف المناهض للإرهاب والذي تقوده الولايات المتحدة.
بالمقابل لم تخلُ ردود الأفعال الأميركية من سيل الإشادات برؤية العبادي الاقتصادية لبناء اقتصاد عراقي قوي ومتنوع الريع ناهيك عن استمرار الدعم الأميركي لشراكة العراق مع صندوق النقد الدولي وبالتنسيق مع مجموعة الدول الصناعية السبع (7G)، وسياسيا لم تخلُ ايضا من الإشادة برؤية العبادي في الإصلاح السياسي وصولا الى الحكم الرشيد والانفتاح البراغماتي في الداخل (وعلى جميع الشركاء السياسيين وبكل ألوان طيفهم السياسي والاثني) وعلى الخارج باتجاه المجتمع الدولي وخاصة ترطيب علاقات العراق مع دول الجوار، يضاف الى ذلك مناقشة تصورات العراق حول الدعم الذي ستقدّمه الولايات المتحدة في المجال الاقتصادي لتجاوز الأزمة المالية بسبب تذبذب أسعار النفط وحول إعادة اعمار المناطق المحرّرة من تنظيم داعش وإغاثة النازحين.
ومن أهم الثمار التي قطفها العبادي من زيارته الى واشنطن إضافة الى مشاركته الفاعلة في مؤتمر التحالف الدولي الذي شارك فيه ممثلو 30 دولة والذي هدف الى استعراض جهود الحملة العسكرية ضد داعش حتى الآن، ووضع ستراتيجية لتسريع عملية القضاء على داعش. وهو ما يصبّ في جهود العراق في هذا الاتجاه فقد تمّ الاتفاق بين الولايات المتحدة وحلفائها على وضع ستراتيجية نهائية لدحر هذا تنظيم، فجاءت زيارة العبادي لوضع خارطة طريق واضحة المعالم لهذه الستراتيجية وكان الاتفاق المشترك بين الطرفين على استمرار هذه الستراتيجية هو النجاح الأكبر الذي حققه العبادي من زيارته.
وعموما فان زيارة العبادي تأتي لعقد شراكة حقيقة وللتحضير لمرحلة ما بعد داعش وهي تمثّل منعطفا كبيرا في العلاقات المهمة والستراتيجية بين البلدين ـ وان جاءت متأخرة ـ وهي علاقات مكمّلة لمشوار النصر الناجز في الموصل.