تأثير المكان في الإنسان

 

البيئة هي مصدر ثقافة الفرد , فثقافة ابن المدينة , كما نعرف جميعاً , تختلف اختلافاً كبيراً عن ثقافة ابن الريف , والبدوي غير الحضري كما يرى عالم الاجتماع الراحل علي الوردي , وهي حقيقة حياتية توثقها المشاهدات والمرويات , اذ ان للبيئة الاثر الكبير في أقلمة الانسان وزيادة معرفته بالمكان , اذ ان المكان في المدينة هو غير المكان في القرية من عمران واسواق وشوارع وقيم وعلاقات .

 

ولكن من ميزة الانسان أن يتأقلم مع المكان الذي يعيش فيه , فأذا انتقل القروي للسكن في المدينة سيكون حتماً عليه التطبع بقيم واخلاق المدينة ويظهر ذلك في السلوك كما يظهر في اللغة ويظهر في القيم الاجتماعية الجديدة التي لم يكن يعرفها أو يألفها من قبل , وسوف يحتاج الى قليل من الوقت او كثير منه لكي يتأقلم تماماً ويعتاد على ما هو جديد .

 

ولعل مما يمكن سرده في هذا المجال حكاية على بن الجهم مع الخليفة العباسي المتوكل فحين وفد كان بدوياً جلفاً مدح المتوكل قائلاً:

 

أنت كالكلب في حفاظك للود

 

 وكالتيس في قراع الخطوبِ

 

أنت كالدلو لاعدمناك دلواً

 

كثر العطا كريم وهوب

 

فلم يتفاجأ الخليفة بذلك رغم استنكار الحاضرين , اذ كيف لهذا الشاعر البدوي أن يصف الخليفة بالكلب والتيس والدلو, وهو صاحب الشأن الكبير والقدح المعلى , ولكن الخليفة فطن الى الامر فأمر له ببيت في بغداد على شاطئ النهر تحيط به البساتين من كل جانب حيث الحياة المدنية في دار مشيّدة على شاطيء نهر جميل وليس خيمة تطل على صحراء قاحلة وغبار يعمي الابصار وبعد فترة تجاوزت نصف العام يعود علي بن الجهم الى المتوكل فينشده :

 

عيون المها بين الرصافة والجسر

 

جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري

 

حيث تغيرت لغة الشاعر تغيراً جذرياً وصارت عباراته مدنية حضرية بعد أن كانت بدوية صحراوية , فهذا هو التأقلم وتأثيره في حياة الانسان القابلة للتغيير حسب ظروف البيئة والمناخ وطبيعة المجتمع في علاقة الانسان مع الآخر او في علاقته مع مفردات الطبيعة .