تقديس المدنس وتدنيس المقدس في الشعر العربي المعاصر |
الكتاب الذي نحن بصدد مراجعته، ينطلق من هاجس يؤرق المبدع، ألا وهو هاجس الابداع والاختلاف عن السائد المألوف ومحاولاته الحثيثة في البحث عن الموضوع والاداة. سعى الكتاب الى تسليط الضوء على جزء من ظاهرة تقديس المدنس وتدنيس المقدس في الشعر المعاصر، وتبيان مدى حضورها في المشهد الشعري المعاصر ، وذلك من خلال شاعرين من رواد الشعر العربي المعاصر هما:ـ بدر شاكر السياب وامل دنقل، اللذان يشتركان بعديد من القيم الذاتية والموضوعية والفنية.. وعرض الكتاب الاسباب التي حالت دون بروز هذه الظاهرة كموضوع شعري ونقدي. كما حاول الكتاب الوقوف على طبيعة الموضوعات المدنسة التي قدساها والموضوعات المقدسة التي دنساها، وعلى كيفيات التوظيف التي استخدمها الشاعران من اجل انبلاج قيمة مقدسة من ذاك المدنس او قيمة مدنسة من هذا المقدس. ثم حاول الكتاب رصد القيم الفنية والجمالية التي نشأت عن هذا التوظيف والاستثمار لهذه الظاهرة التي لم تعط حقها من الدرس النقدي في الشعر العربي المعاصر ـ على حد قول المؤلف ـ على الرغم من بروزها كظاهرة موضوعية. اما الاسباب الشخصية التي دعت المؤلف الى اختيار هذا الموضوع، فهي - كما ذكر- ـماتشهده المنطقة العربية من هزات وتقلبات وولادات لقيم سياسية واجتماعية وثقافية، بصرف النظر عن نجاحاتها في اقطار، واخفاقاتها في اقطار اخرى . كان للشعر - يشير المؤلف -على مايزعم قصب السبق في التنبؤ بها واستشرافها منذ عقود خلت، متوسلاً تقنية تقديس المدنس / تدنيس المقدس ، التي حدد المؤلف تعريفاتها: - المقدس: يقصد به كل قيمة او مواضعة متعالية، دينية كانت ام اجتماعية ام تاريخية ام رمزية ام غيرها من القيم والمواضعات التي سكنت الذاكرة الجمعية في الثقافة العربية او في الثقافات الاخرى. - المدنس: يتضمن كل ابعاد المدنس الدينية والاجتماعية والتاريخية (الشيطان، المومس، الخيانة، موت الاله..) وما يتضمنه من قيم انسانية رآها بعض الشعراء. - تقديس المـدنس : يقصد به ــ اجرائيا ــ كل خرق لمقـدس ديني او مواضعـات او اعراف اجتماعية بدءاً من التقديس والتمجيد او التضامن او التعاطف وانتهاء بالتسويغ لأي سلوك قد يكون مدنساً. توزع الكتاب على ثلاثة فصول، وفي كل فصل ثلاثة مباحث وخاتمة. ففي الفصل الاول الذي عنونه المؤلف بـ بروز ظاهرة تقديس المدنس / تدنيس المقدس في الشعر العربي المعاصر، حيث بدأ المؤلف في مبحثه الاول بالارهاصات التاريخية والمعاصرة لهذه الظاهرة في الشعر العربي المعاصر حيث بين ان بذور هذه الظاهرة كانت موجودة منذ العصر الجاهلي والتي تمثلت في خرق الاعراف المجتمعية وانبثاق بعض الظواهر الاجتماعية، كظاهرة الصعاليك، والمجاهرة، والتصريح بالمجون، كما حصل عند الوليد بن يزيد في العصر الاموي، وتجاوزه لبعض الاخلاقيات الدينية والمواضعات الاجتماعية، واستمرت هذه الخروقات والتجاوزات بوتيرة اعلى، وبمنهجية ادق في العصر العباسي، حيث بدأت تأخذ شكل مطلب فني، كما في خروج ابي تمام على عمود الشعر العربي القديم، وما أثاره ذلك الخروج من ردود فعل عند حراس التقليد الفني، والماضوية في زمانه، واتحد المطلب الاجتماعي والفني عند ابي نواس لخرق القيم الاجتماعية والفنية الثابتة، وصولاً الى العصر الحديث الذي شهد تحولات فكرية وسياسية واجتماعية كبيرة بدءاً من القرن العشرين التي كانت اضافة لما سبق من محاولات تاريخية، المحرك الاساسي لبروز هذه الظاهرة عند الشعراء المعاصرين. وتناول المؤلف في المبحث الثاني مسوغات بروز ظاهرة تقديس المدنس في الشعر العربي المعاصر تحديداً واجملها في ثلاثة اسباب:ـ 1- ذاتيـة الشـاعر/ هاجس الاخـتلاف ـ حيث رأى المؤلـف ، ان الشـــاعر المخلـص لتجربتـه كان يريد لشعره ان يكـون صوتاً مختلفاً عما قبله ، لذلك سعى الى هذه الظاهرة ــ ظاهرة تقديس المدنس ــ تعبيراً عن ذاتيته الشعرية المستقلة بمواضيعها ورؤاها. 2- الحاجة الفنية / البحث عن الاداة / الدهشة ــ حيث أحس الشاعر انه استنفد الادوات الفنية القديمة وانها لم تعد تصلح جميعها لحمل رؤيته وتجربته الابداعية فكان لابد من خلق ادوات وتقنيات جديدة تتلاءم مع طبيعة هذه الرؤية والتجربة الابداعية الجديدة، فكان ذلك عاملاً من عوامل بروز ظاهرة تقديس المدنس. 3- التأثر بالغرب / طبيعته ــ لم يكن تأثر الشعراء العرب المعاصرين بالغرب واحداً عند الشعراء المعاصرين .. بل كان التركيز على طبيعة التأثر من حيث بروز ظاهرة تقديس المدنس وتقنيتها التعبيرية، فكان تأثر بعض الشعراء المعاصرين.. له دور في بروز هذه الظاهرة حيث وجدوا في الثقافة الغربية متنفساً وفضاء يمكنه ممارسة الحرية فيه دون قيود ولم يمارسوا هذه الحرية التي تمثلت بتقنية تقديس المدنس على التراث العربي والاسلامي الا في حدود ضيقة وبعيداً عن اثارة الحساسية الدينية بل اقتصرت على بعض القضايا الاجتماعية. وعن ابعاد المدنس / المقدس في الشعر العربي العام ، بينَ المؤلف في المبحث الثالث من هذا الفصل، ابراز المواد والموضوعات التي اختارها السياب ودنقل ووظفوها بتقنية تقديس المدنس / تدنيس المقدس. وقسم تلك المواد والموضوعات وما تتضمنه من شخصيات الى:ـ 1- الاحتفاء بالعصاة / تقديس المدنس. 2- تشويه صورة الابطال / تدنيس المقدس. 3- الحط من النسب العربي / تدنيس المقدس. 4- التضامن مع الطبقات الوضيعة في المجتمع / تقديس المدنس. كان الفصل الاول مما تقدم ، محاولة من قبل المؤلف لتأصيل ظاهرة تقديس المدنس وجودياً (انطولوجياً) في الشعر العربي المعاصر ، فبين تصوره لهذه الظاهرة ، ومعرفياً (ابستمولوجياً) مـن خلال ماسعــى اليه المــبدع من توظيف لهــذه الظاهــرة واستغلال قطبيهـــا ــ المقدس والمدنس ــ . في الفصل الثاني بينَ المؤلــف الاسباب التي حالــت دون ولادة مصطلــح تقــديس المدنس/ تدنيس المقدس . وأشار الى ان تداخل مصطلح تقديس المدنس / تدنيس المقدس مع بعض الاساليب اللغوية والألتباس فيما بينها ، كان المسؤول ــ يؤكد المؤلف ــ عن عدم ولادة هذا المصطلح. وقد افرد المؤلف في كل مبحث من مباحث هذا الفصل الثلاث ، اسلوباً من هذه الاساليب اللغوية ، وهي : المفارقة ، والسخرية ، والتهكم ، والتضاد . ففي المبحث الاول ــ عرفَ المؤلف المفارقة واتى بنماذج منها من شعر السياب ودنقل ، ومن ثم ذكر بعض المواضع الشعرية التي تم فيها اللبس بين مصطلح المفارقة ومصطلح تقديس المدنس / وتدنيس المقدس . في المبحث الثاني عرفَ المؤلف السخـرية والتهكـم وأشـار الى الفـرق الدقيق بينهمـا وبين المفارقة وبعد ذلك بين مواضع الألتباس بين مصطلح السخرية والتهكم ومصطلح تقديس المدنس/ تدنيس المقدس . وفي المبحث الثالث عرفَ المؤلف مصطلح التضاد واورد نماذج شعرية له ووقف عند مواضع الألتباس بينه وبين مصطلح تقديس المدنس / تدنيس المقدس. لقد توصل المؤلف في هذا الفصل لنتيجة ، وهي ان طبيعة هذه الظواهر تتشابه مع ظاهرة تقديس المدنس / تدنيس المقدس من جهة البنية التركيبية والغاية المعنوية لكل طريقته وادواته. بيد ان جلاء ظاهرة تقديس المدنس في الشعر العربي المعاصر ــ كما ذكر المؤلف ــ لن يكتمل دون ان يقترن بابراز القيمة الفنية والجمالية والوظيفية لهذه الظــاهرة ، اذ انها ــ هذه الظاهرة ــ لم تكن وليدة ترف فني او اشباعاً لحاجة تعبيرية بل كانت اداة تم استثمارها من قبل الشاعرين السياب ودنقل لتحقيق غايات على عدة مستويات فنية وجمالية ووظيفية . الفصل الثالث والاخير من الكتاب خصصه المؤلف للتحليل وفقاً للمنهج السيميائي لتبيان ملامح من القيمة الوظيفية والتعبيرية والجمالية لتوظيف تقنية تقديس المدنس / تدنيس المقدس في الشعر العربي المعاصر من خلال نصين للسياب ودنقل . ففي المبحث الاول من هذا الفصل ، قام بتحليل المزج الاول من قصيدة دنقل (كلمات سبارتاكوس الاخيرة) بغية الكشف عن توظيف تقنية تقديس المدنس / الشيطان وكيفية تخلق قيم انسانية سامية من هذا المدنس في العرف الديني مستخدماً المؤلف في تحليله للمزج الاول بعضاً من ادوات المنهج السيميائي الاجرائية ، وقام بدراسة المستويات الصوتية والتركيبية والدلالية وتم عرض حركية المعنى على المربع السيميائي . وفي المبحث الثاني تناول تقنية تقديس المدنس / تدنيس المقدس كأداة تعبيرية ، فقام المؤلف بتحليل المزجين الثاني والثالث محاولاً الكشف عن دور هذه التقنية في التعبير عن الواقع، فعندما قام الشاعر بتدنيس المقدس / الثائر يجعله يظهر بائساً ويطلب من الجموع الانحناء التي هي في الاصل محنية الرأس وتقديس المدنس الذي تمثل بتشجيع القيصر على الاستبداد وانما كان الهدف منه تعرية الواقع وتعميق الوعي به ، وكشف المؤلف شـيء من المستقبل المنتظـر ان استمـرت الجمـوع على ما هـي عليـه مـن خنوع وسلبيـة واستعـان بترسيمـة المشهــد العاملية والمربع السيميائي في تأكيد ما زعمه بعد دراسة المستويات الصوتية والتركيبية والدلالية . اما في المبحث الثالث ، فقد سعى المؤلف في تحليله للمزج الرابع من قصيدة (كلمات سبارتاكوس الاخيرة) للوقوف عند الانزياحات الجمالية وكسر افق توقع القارئ وخلخلة يقينياته وما احدثه ذلك من هزات جمالية ونفسية من خلال توظيف الشاعر لتقنية تدنيس المقدس مما انتج رؤية فنية طريفة اظهرتها من خلال دراسة المستويات الصوتية والتركيبية والدلالية ، كما وقف المؤلف عند مقطع من قصيدة ــ المومس العمياء ــ للسياب فأطر النص وحدد محاوره مستعيناً بالمعينات الاشارية وقراءة مرجعياته الخارجية وتضميناته الداخلية سعياً الى القبض على حركية المعنى وثوابته وقراءة الغيابات بعدة طرق ، مقدماً بذلك ترسيمة المشهد العاملية للمقطع ، وتوصل المؤلف الى ان السياب قد قام في هذا المقطع من القصيدة بتقديس المدنس من خلال جعل القارئ يتعاطف مع قيمة مدنسة. بعد كل الاجراءات التحليلية التي جاء بها المؤلف في كتابه القيم هذا ، اعترف في خاتمته بأنه لا يمكنه الادعاء انه استطاع القبض على القيمة الفنية والجمالية لهذه الظاهرة ولا الكشف عن آليات انتاج نصوص هذه الظاهرة ومستويات وغايات هذا التوظيف الا انه اعد ما قام به لا يعدو ان يكون اشارة الى منطقة ادبية ونقدية لم تعط حقها من العناية والدرس. وقد عدد المؤلف بعضاً من الاسباب التي ساهمت في تغييب هذه الظاهرة عن المشهد النقدي المعاصر ، وقد اجملها المؤلف بالنقاط التالية:ـ 1- بين المؤلف ان لجوء الشعراء المعاصرين الى هذه الظاهرة كان بحثاً عن اداة فنية سخروا لها طاقاتهم الابداعية ومقدراتهم النفسية والثقافية وليس سعياً لانتهاك المقدسات الدينية والاعراف الاجتماعية. 2- بين المؤلف ان مساحة المقدس والمدنس وابعاده عند الشعراء المعاصرين امتدت لتشمل فضاءات دينية واجتماعية وتاريخية ، بدءاً من اقدس المقدسات وصولاً الى ادنى المدنسات . 3- ابرزَ الكتّاب القيمة الجمالية والوظيفية لتقنية تقديس المدنس في الشعر العربي المعاصر وكيفية تخلق قيم انسانية سامية من هذا المدنس او العكس . كما اوضح المؤلف مدى نجاح هذه التقنية كأداة تعبيرية في الخلق الفني. ان الشعراء العرب المعاصرين لم يستنفدوا طاقاتهم الابداعية وقدرتهم على تطوير القصيدة * الكتاب : تقديس المدنس في الشعر العربي المعاصر : تجرية التوظيف والتعبير عند بدر شاكر السياب وامل دنقل انموذجاً ، تأليف - رائد الصبيح ، ط1 ، المركز الثقافي للكتاب / الدار البيضاء /بيروت ، 2017 |