لماذا نرفض الخصخصة في العراق حالياً؟

الخصخصة هي إجراء اقتصادي ظهر عملياً بمفهومه الحديث في نهاية سبعينيات القرن الماضي في بريطانيا ثم انتشر لدول أخرى وقد تم تجربته في قطاعات متنوعة، يعني بمفهومه الأول بيع قطاعات حكومية للقطاع الخاص وهو بهذا المعنى نقيض التأميم لذا يرفضه ذوي الميول الاشتراكية.
يفلسف البعض الهدف إلى إن الدول ينبغي أن توكل بعض مهامها إلى القطاع الخاص لتركز على المهام الأكبر.
تطور لاحقاً لتكون له صور مختلفة يمكن القول بأنها اتاحت للقطاع الخاص فرصة أكبر لتولي-أو المشاركة في أو المنافسة في- مهام كانت تتولاها الحكومات فقط أو هي المسيطر الأساسي عليها.
من هذه الصور:
1-بيع ملكية عامة للقطاع الخاص بشكل كامل.
2-إيكال مهمة تقديم خدمة معينة جديدة للقطاع الخاص.
3-بيع جزئي لملكية عامة إلى القطاع الخاص فتكون الدولة شريك للقطاع الخاص بنسب مختلفة، وفي بعض الاحيان يطلق على هذا الاجراء الهيكلة، وهو المعمول به حالياً في العراق في خطة هيكلة شركات القطاع العام.
4-تنظيم قطاع حكومي وخلق جو من المنافسة منصف بين القطاع العام والخاص، وهو الذي تم على ضوئه خصخصة قطاع الاتصالات في العراق سنة 2004، مع فقدان عنصر المنافسة المنصفة كما هو الواضح لأي متابع.
5-الخصخصة الإدارية، ويعني إيكال أمر إدارة قطاع حكومي أو جزء منه للقطاع الخاص، ومن أمثلته عقود الاستثمار-التي تسميها وزارة الكهرباء هكذا- لتوزيع الكهرباء في العراق.
على هذا يكون تعريف الخصخصة:
"بيع أصول أو مشاركة أو تنظيم منافسة القطاع العام مع القطاع الخاص".
وفقاً لهذا ووفقاً للتجارب العملية في العديد من الدول للخصخصة فهي إجراء اقتصادي إن تم اختيار القطاع المطلوب خصخصته بدقة وتوفرت فرص المنافسة والمراقبة والتدقيق وحفظ حقوق المستهلكين فقد ينجح مع التخوف المستمر من ارتفاع تكلفة الخدمة المقدمة وهو الذي لم تسلم منه تجربة خصخصة واحدة قط حسب تتبعي.
من منافع الخصخصة: خلق جو تنافسي لتقديم الخدمة وتفرغ مؤسسات الدولة لإنجاز مهام أكبر والتخلص من بطء الاجراء الحكومي وصعوبة التطوير فيه فالقطاع الخاص يسهل اتخاذ القرار فيه وهو أسرع في الاجراءات وأكثر رغبة في التطوير لأن التطوير يخلق أرباح أكثر وهو هدف القطاع الخاص.
من مساوئ الخصخصة: فقدان الدولة لمركزيتها وتهديد أمنها ووجود فرص كبيرة للفساد المالي واحتمال كبير لارتفاع أجر الخدمة واحتمال كبير لعدم تحسنها وضعف تأثير المستهلك.
لتجنب هذه المساوئ تقوم الدول بوضع أجهزة حكومية وقوانين رقابية صارمة وتعطي مساحة كبيرة لحقوق المستهلك عبر تشريعات وتثقيف وتصنيف لنوع المستهلك ومستواه الاقتصادي، ويسبق تطبيق الخصخصة حملة إعلامية للتثقيف بها ومناقشة تفاصيلها وقد يصار إلى تعديلات فيها أو رفض لها.
نجحت تجارب الخصخصة في قطاعات لا تلمس الخدمات العامة بشكل مباشر، وفشلت في أخرى، وإن نجحت في تقديم خدمة أفضل ولكن بتكلفة مرتفعة، هذا في الدول المتقدمة والتي لديها جهاز حكومي ورقابي جيد ومستوى الشفافية كبير، أما في الدول التي لا تمتلك ذلك فالفشل هو النتيجة الحتمية تقريباً لذلك إن تحولت الخصخصة إلى كارثة اقتصادية جعلت الفقير أكثر فقراً والغني الفاسد أكثر غنى وفساد.
الآن وقد أصبحت صورة المقصود بالخصخصة واضحة بمعناها وأنواعها وايجابياتها وسلبياتها وكيفية معالجة الإيجابيات، أعتقد إن أسباب تطبيقها في العراق الآن أصبحت واضحة، ومع ذلك نعطي بعض النقاط للتوضيح أكثر:
1-لدينا تجارب خصخصة سابقة في العراق منها وأبرزها كما ذكرنا خصخصة قطاع الاتصالات سنة 2004 بأسلوب تنظيم القطاع، رغم إن البعض قد يتصور عدم إمكانية قيام مشروع حكومي ناجح في مجال الاتصالات الخلوية ولكن مما لا يعرفه الكثيرون إنه كان لدينا مشروع هاتف خلوي قبل 2003 قيد الإنشاء وقد بنيت أبراج في العديد من المحافظات ولكن تم نسفه!
الخصخصة بأسلوب تنظيم القطاع تقتضي أن تكون فرص التنافس متساوية بين الشركات الحكومية وشركات القطاع الخاص، وكمثال على تجربة ناجحة في هذا المجال ما حدث في السعودية حيث تم خصخصة قطاع الاتصالات فيها بنفس الاسلوب ولكن سبق ذلك تقوية ودعم شركة الاتصالات الحكومية لتكون على مستوى المنافسة مع شركات القطاع الخاص وهي الآن شركة عالمية لديها مشاريع حتى في الصين!
فأين نحن من هذا وشركة الاتصالات الحكومية لا تستطيع في بعض الأحيان دفع رواتب موظفيها ومنع عليها العمل بنفس نشاط الشركات الخلوية الخاصة؟!
وهل نحتاج أن نتكلم عن المحاصصة في شركات الهاتف النقال (الخلوي) ونقول هذه الشركة لمن وهذه الشركة لمن أم الصورة واضحة بما فيه الكفاية؟!
2-العراق يتربع-للأسف- على قمة الدول الأكثر فساداً إن جاز تسميتها قمة!
فطبيعي إن المستثمر في الخصخصة سيكون صاحب الصوت والسلطة الأقوى والمستهلك لن يكون له أي دور مع عدم وجود قوانين ومؤسسات وثقافة حقيقية تحميه.
3-الاجهزة الرقابية في العراق محاصصاتية وفوضوية وبالتالي هذا سيخدم الشركات والجهات المشتركة معها خاصة مع وجود إغراء المليارات!
بل كل البلد محاصصة وليس الأجهزة الرقابية فقط يعني إن الخصخصة ستكون في النهاية حصتي وحصتك!
4-القطاعات التي يتم اختيارها للخصخصة يمكن النجاح بها حكومياً فالبدء بها دليل على رغبة في الاستفادة المالية الشخصية أو الجهوية وليس الاصلاح الاقتصادي هو الهدف فعلاً وإلا لتم اختيار قطاعات جديدة كقطاع السياحة مثلاً أو اختيار قطاعات غير منتجة يمكن للمستثمر عبر الخصخصة تحويلها لمنتجة.
5-لا يوجد أي تثقيف مسبق ليكون المواطن-المستهلك- واعياً ومدركاً لما يجري حوله، بل إن الشفافية مفقودة في هذا الملف عموماً وإليكم أمثلة على ذلك:
أ-خصخصة قطاع الاتصالات بصمت سنة 2004 دون أي إعلام أصلاً ولو سئت الآن ربما أشخاص يعملون في هذا القطاع لنفوا خصخصته لأنه لا يعلمون أو لا يفهمون إن ما جرى هو خصخصة بأسلوب تنظيم القطاع وتم بطريقة فاشلة جداً!
وقد تحدثت عن ذلك مطولاً في دراسة منشورة قبل سبع سنوات بعنوان "حقائق عن الاتصالات في العراق".
ب-جولات التراخيص في النفط خصخصة تم تعمية تسميتها بتسميات أخرى وللآن يصعب على المختصين فضلاً عن غيرهم الاطلاع على العقود ومعرفة التفاصيل وخسر العراق مليارات إلى الآن بسبب ذلك والحديث عن هذا الأمر يطول ويطول.
ج-هيكلة الشركات العامة وهي دعوة وعمل لازال مستمراً ويقصد به خصخصة الشركات العامة خاصة شركات الصناعة وقد شملت الخصخصة حتى الشركات الرابحة!
وتعمد تسميته هيكلة وليس خصخصة لتجنب غضب الناس وهذا خلاف الشفافية والوضوح وحالياً مستقبل الصناعة العراقية في المجهول ومعه كذلك مصير آلاف العاملين في هذا الشركات!
د-عقد خصخصة توزيع الكهرباء حيث تم تسميته عقد استثماري ورفض القول بأنه خصخصة في البداية ثم الاعتراف بذلك لاحقاً نتيجة الضغط الشعبي، وتم العمل عليه بشبه سرية لمدة طويلة وتسويقه على إنه حل لمشكلة الكهرباء في العراق وهو ليس كذلك!
6-إن قرار الخصخصة لم يكن قراراً عراقياً نابعاً من حاجة المجتمع ودراسة وضعه بدقة وإنما هو إملاءات من الخارج (الولايات المتحدة الأمريكية وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية) وهذه الجهات قطعاً تبحث عن مصالحها الخاصة ولديها تجارب واضحة ومعلنة في إيصال دول إلى الحضيض اقتصادياً نتيجة القبول بالإملاءات.
فهل أصبحت أسباب رفض الخصخصة في العراق حالياً واضحة؟
تجاوزوا كل ذلك وهاتوا لنا خصخصة بشروط عراقية نقبل بها.