مداد في عباب 91 ـــــ 100

91ـ

هل يجوز للكاتب ان يسكت او يهرب امام الفواجع ؟ وما نفع الكتابة في الزمن الردئ ؟

هذا السؤال يطرحه على ذاته وباستمرار ، كل كاتب حق سواء كان شاعراً او صحفياً او اديباً او مبدعاً جمالياً يحترم ذاته. وهذا السؤال الذي بسببه يتوقف الكثيرون نهائياً عن الكتابة او يصمتون من أجل التأمل او ينقطعون عن تجيير مايجري في فضاء عقولهم من افكار وخواطر ومشاعر .. لانهم تيقنو بعد مراس طويل ، ان الفعل الكتابي لم يعد له اي معنى او أثر او تأثير او حضور فعال في مجرى التاريخ والحضارة . بتعبير آخر ، لم يعد للعمل الكتابي أية مساهمة حقيقية في طرح الاسئلة الجوهرية التي تساهم في توضيح معنى الانسان ودوره المميز بين الحياة والموت من خلال اعطائه وضعا بشريا يليق به ، بهيبته وشرفه وكرامته وحريته .

وهذا السؤال هو سؤال صعب وفي منتهى الصعوبة لأنه يطرح في الوقت ذاته اسئلة عديدة اخرى ، اهمها : اذا أقرَّ الكاتب ببطلان العمل الكتابي ، فماذا ينفع الصمت ؟ وهل يجدي التغاضي والتعافي وعدم الشهادة ؟ وبالتالي ، أليس السكوت بعينه نوعاً من شهادة الزور التي نهت عنها الكتب المقدسة ؟

ليس اذن طرح السؤال من جديد بلا معنى ، لأن الكاتب الذي يحترم ذاته مهدد دوماً بالسكوت والصمت والتغاضي ، وهو اليوم معرض لاغراءات واستقالات لم يشهد لها التاريخ البشري مثيلاً . فالكاتب المعاصر المشاهد لاحداث العالم ، وهي احداث لا بل حروب اخلاقية وقيمية وعنصرية ومذهبية على جميع المستويات .. هذا الكاتب مهدد على اكثر من صعيد .

ماذا ترك له العلم المتطور؟ ماذا تركت له فورية الاعلام وسرعة الاشاعات ؟ كيف يمكن له ان يكتب او يقول او يشعر حقاً وهو مهدد من الداخل والخارج ومقتلع من تاريخه او جاهل له في آن ؟ كيف يمكن له ان يعبر اذن بحرية عن الحرية او سرابها وهومحتل العقل والروح والجسد. اي انه فريسة لاحتلال ارضه وفضائه ولغته وتراثه ؟

ان الكاتب المعاصر اليوم ، هو اليوم امام السؤال الخطير : ماذا تنفع الكتابة في الزمن الردئ ؟

لكن كيف يحق للكاتب الذي هو صودرت احلامه وطموحاته وذكرياته ولحظات عزه ان يصمت ويسكت امام الخراب وامام شهادات الزور وبيع الضمائر وشرائها ؟ كيف يحق له ان يتغاضى لحظة واحدة عن مسؤوليته الكبرى وهي تقوم على رفع الصوت ورفض الأمر الواقع الذي يضر بالانسان وينال من حقوقه البديهية ؟

بتساؤل آخر : هل يحق للكاتب الذي يحترم ذاته ان يبقى مكموم الفم ، مكتوف اليدين ، امام الفضائع التي تنال منه ومن شعبه ومجتمعه ، فتشوه تاريخه وتلغي استمرايته ككائن له ماض ، لكن له الحق ايضاً بحاضر وبمستقبل يليقان به كانسان ؟

طبعاً ، لا يحق للكاتب الصمت ، ولا السكوت ولا يجوز ان يستقيل امام المصاعب الخلقية والسؤوليات القيمية المناقبية ، بل حسب الكاتب المبدع ان يكون هو الضمير الرافض والصوت المعبر عن قلق عصره وعن طموحات بني جيله.

الا يكفي الكاتب فخراً ان يكون علامة فارقة في الزمن الردئ ؟ أما العلامة الفارقة فهي الشهادة الشريفة التي تميزه عن غوغاء القطعان وأوباشية التفكير .

كذلك يكفي الكاتب الحق ان يكون رسولاً في مجتمعه المهدد ، وان يكون الكاشف الغطاء والممزق الحجاب عن كل مايجري في الدهاليز ضد الانسان في وجوده وقيمه الروحية .

وهكذا ، بقدر مايجوز طرح السؤال الجوهري ، بالقدر ذاته واكثر ، لايجوز ان يلجأ الكاتب الى الهروب من مسؤوليته القيادية والطليعية ، لأن السكوت على الضيم والظلم وشهادة الزور هو ضرب من ضروب الاجرام ، وهوعمل جبان يوصل بالانسان ـ عاجلاً ام آجلاً ، الى حالة من الانحطاط والسقوط ليس من السهل عليه ان يخرج من اطارها الا بنوع من الاستشهاد.

وعليه ، كل كاتب عظيم هو في الحقيقة شاهد عظيم . وكل كاتب حق هو بديهياً انسان حق حاضر ابداً في قلب التاريخ وفي ضمير الانسان الحي . وكل كاتب مسؤول هو ايضاً بدوره انسان شجاع قد تكلفه الشجاعة احياناً اغلى مالديه .

لكن كل هذه المسلمات لا يمكن لها ان تستقيم وتأخذ ابعادها وفرادتها الا بالاكتشاف . اي بما يمكن تسميته الرجوع الى التأمل في معنى الحرية وما يتفرع عن هذا المعنى من مضامين ومخاطر هي الشرط الاول والأخير لتبرير وجود الانسان والشهادة له لا عليه.

ـ92ـ

كلمة ( كاتب ) ألهبت مشاعره طالما توسدت احلامه كالطفل يداعب طيفها المترائي كي يستنشق ريحها وينتشي بعبيرها . كانت امامه كومة من الجرائد نثرها على الارض وراح يبحث في صفحاتها الثقافية ، وراح يقرأ كل سطورها ويبحث عن كنه هذه الكلمة ، فانه مصمم على ان يكون او يصير كاتباً .

انتصف الليل وامتلأت الارض امامه بأوراق الجرائد المبعثرة بلا انتظام وهو يغوص في بحار الكلمات ويفتش بين السطور عن دانتي المفقود . كل الصفحات الثقافية كانت متشابهة.. قصائدها ، قصصها، نقدها، مقالاتها ، وجهات نظرها ، اتجاهاتها الفنية ، رؤيتها للواقع .. وهو لا يبحث عن شيء الا عن كلمة ( كاتب ) .

جميع الخيوط المتباعدة ، نسج نسيجه ووحد ضالته ، استخرج من الجرائد بعض الاسماء الاجنبية .. وحفظ الاسماء جيداً وتأكد ان قلبه قد استوعبها ثم اخذ قلماً ودفتراً وشرع في كتابة قصة قصيرة .

لم يحدد فكرة ما ، ولم يختر ابطالها من المجتمع حتى لا يطعن أحد في ثقافته ، ملأ الورق بالغموض ، فبدأ من حيث لا يدري ، وانتهى وهو لا يدري .

ولم يكتف ، بل كتب مقالاً طويلا اخترع فيه افعالاً وكلمات جديدة ـ لانه احب الابداع ومن الابداع الاتيان بالجديد ـ وانتقد قصيدة امامه بأسلوب مبهم ووزع الاسماء التي حفظها عن ظهر قلب في سطور المقال ، واختتمه بنقطة كبيرة ولم ينسى عنواناً يثير الانتباه ولا يرتبط بموضوعه سوى بمساحة المليمترات التي تفصلها ، ووضع المقال والقصة في مظروف بريدي، ثم استلقى على فراشه بكل ارتياح ، فغداً سيرسله الى اي جريدة كان قد قرأ صفحتها الثقافية وبعدها سيكون كاتباً حتماً .

ـ93ـ

حقائق التاريخ واحدة وثابتة لا تتغير ولا تتبدل مهما حاول البعض السير عكس مسيرتها، ذلك ان التاريخ كالبحر يلفظ كل غريب او دخيل عليه ويحتفظ بكل ماهو حق واصيل .

وليس ادل على هذا الكلام من الانهيارات المتلاحقة التي عرفتها الديكتوتوريات في العالم ، فخلال فترة زمنية وجيزة لا تتجاوز النصف جيل ، سقط اكثر من ديكتاتور ..

ان التاريخ القديم ، كما الحديث يثبت بان حكم الشعوب لا يمكن ان يتم الا تحت عنوان واحد هو الحرية ، فمتى تأمنت او امنها الحاكم للشعب استتب ميزان الحكم ، ومتى انعدمت او استبدلها الحاكم بالظلم والتعسف والجور انقلب الميزان وانقلب السحر على الساحر . وهذا ماحصل وما يحصل في اكثر من بلد من بلداننا العربية على الاخص .

ولما كانت الديكتاتورية لا تعيش الا في المجتمعات الفقيرة مادياً وثقافياً تبرز الحاجة الى مبادرة الدولة الحرة المسؤولة واقعياً عن الفقيرة الى رفع يدها عنها وعن ديكتاتورييها الذين هم في النهاية دمى في ايديها تحركها متى شاءت .

ان الممارسة السياسية الحرة هي حق من حقوق اي شعب وهي لا تتم الا متى وعى العالم قيمة ومعنى الحرية لينطلق دولة جانب دولة ويداً فوق يد ، في مسيرة الحق.

علماً ان الامثلة على الممارسة السياسية الصحيحة والحقة كثيرة ويكفي ان ننظر الى الانظمة العربية التي تستلهم الحق والعدالة في نهجها ، وتتولى توزيع الثروات بالعدل والمساواة بين جميع رعاياها من اجل انسان افضل حتى تقع على المثال الذي يجب ان يحتذى .

ـ94ـ

لا يليق بالمثقف عادة ان يتولى على عاتقه مهمة التطبيل والتزمير للحاكم حتى ولو ظهرت على هذا الأخير مظاهر عبقرية غير مألوفة . فالحاكم عادة ، وفي كل مكان وزمان، لا يعدم الوسائل الكفيلة بجعله مطاعاً مسموع الكلمة ، مرهوب الجانب، مرفوع الرأس ، حتى ولو كان ذلك على حساب طأطأة رؤوس العباد ، ومصادرة عقولهم واسماعهم والسنتهم وابصارهم ، وربما كذلك اذواقهم وبقية ما يملكون .

فالمثقف يميل بطبعه نحو التشكيك والنقد والمراجعة ، والا فما فائدة العلم الذي حصل عليه ، والفكر الذي استوعبه ، والتجارب التي تعرف عليها ؟ فقد جرت العادة في امم العالم المتقدمة او تلك التي وضعت نفسها على طريق التقدم ان يكون المثقف هو الطليعة ، والمفكر هو المنارة ، والاديب هو الشعلة، والفيلسوف هو القدوة، وجرت العادة ايضاً في امم العالم المتطور او في تلك التي تحلم بالتطور ، ان يكون هؤلاء جميعاً هدى للحاكم وناصحاً ومرشداً. ولكن المتتبع لشؤون دنيانا العربية يرى اننا نشذ عن هذه القاعدة ونقلب الآية رأسا على عقب بين آيات كثيرة قلبناها ..

في عموم اقطارنا العربية مثلا ، ومنذ ثوراتنا الانقلابية ، كان الحاكم على الدوام سباقاً حتى ولو لم يكن دائماً بالاتجاه الصحيح ، وكان المثقفون في مؤخرة الركب على الدوام . فقد عمل بعضهم للوحدة العربية مالم يعمله ألمع المثقفين ، وجعل الآخر من الامة العربية فعلاً وحدثاً وواقعاً تاريخياً ، ومن لم يستطع اللحاق به وخاصة في اوساط البؤر الثورية والتقدمية الملتهبة .. فقدَ كل مصداقية ، وكل شرعية ، وكان اول من تستقبله (مزابل التاريخ) التي نصبها لكل من لا يشاطره الرأي ويقاسمه النرجسية . وعندما انعطف احدهم يهودياً انعطف معه معظم فطاحلة الادب والفكر وأخذوا يكتشفون المحاسن الصهيونية ، واحد اسلافهم اعاد قراءة التاريخ من جديد واعاد بلده الى عروبته ، فاذا بالمثقفين اياهم يسرعون الخطى خشية ان يفوتهم الركب مرة اخرى.

وفي احد اقطارنا العربية عندما قال لهم قائدهم انه رجل ديمقراطي ويؤمن بالتعددية لم يتسع عقلهم لمثل هذه التجربة التي ما كانوا يجرؤون حتى على الحلم بها، وراحوا لا ضحية زوار الفجر ولكن ضحية صناديق الاقتراع .

وفي قطر عربي آخر ، تجاوز قائده في فترة زمنية قياسية اكثر الشعارات ديمقراطية وليبرالية وقلب الخريطة السياسية في البلد رأساً على عقب ، ولا يستطع احد ان يزايد عليه، وعساهم يستوعبون التجربة التي ما كانوا ليراهنوا على حدوثها ولو بأبخس الاثمان.

اما عراقنا ، فعندما قال لهم القائد الملهم انه من سيفتح الحلبة السياسية لتصارع الافكار والمبادئ ، وانه ايضاً من انصار التعددية والحوار الديمقراطي ، ذهلوا ووجدوا انفسهم يعيشون في عالم والحاكم في عالم آخر يبشرهم به ..

يقول المثل الشعبي ( اللي تعرفه احسن من اللي لا تعرفه ) والحقيقة اننا كلما تعرفنا على بعض حكامنا كلما ازددنا حذراً حيطة من بعض معارضينا . فمن السهل ان تكون معارضاً وتنتقد القدر ، ولكن من الصعب ان تكون حاكماً وتحلم بالقمر.

ـ95ـ

مجموعة من الكتاب الصحفيين واصحاب الاقلام والزوايا اليومية ، دأبوا مؤخرا على الخوض في مواضيع ليسوا اهلا لها ولا من فرسان ميدانها ولا من رجال ذلك المقام .تلك الطائفة الطارئة التي وجدت نفسها وقد اصبح للواحد منها زاوية يومية ينقش تحتها اسمه بالخط العريض ويزينها بصورة لطلته البهية ويتمنى لو كانت ناطقة حتى تكون زاويته صوت وصورة .

اصبح هؤلاء يتطرقون لقضايا لا تعنينا البتة ولا نتمنى ان نقتبس منها شمعة ، ولا ان تنهل من ينابيعها رشفة .. فانما هي اراضٍ سبخة.

احدهم يكتب لنا غزلاً في معشوقته مدعياً ان كلامه شعراً ، ومعتقداً انه قيس زمانه. والآخر يكتب مقالاً مطولاً يمتدح زيداً او عمراً لغرض ما ، يكيل له في المديح والنفاق وكأنما المتنبي يمدح سيف الدولة . وثالث بينه وبين زميل له شحناء وبغضاء ، فانتهز الفرصة واستغل زاويته ليكيل الآخر السباب والشتائم .. وغير اولئك كثيرون .. فبالله عليكم ماذنب القارئ في كل ذلك؟ وماذا سيستفيد القارئ من غزل عاشق او نفاق مغرض او شتيمة حاقد ؟ اذا لم يخرج القارئ بفائدة من خلال معلومة جديدة يكتسبها او خبر او رأي ناضج في قضية من مقال ذلك الكاتب ومن تلك الزاوية، فلا كانت هذه الزاوية ، ولا دامت .. مع احترامي وتقديري لجميع الكتّاب ، ومع اقراري واعترافي بوجود اساتذة في ادب الغزل والمدح بعيداً عن النفاق وفي الهجاء البناء .. ولكن ما اعنيه اولئك الطارؤون فقط .. ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه فوقف دونه ؟

ـ96ـ

احياناً اتمنى رقابة على الرقابة ، بل ورقابة ثالثة ورابعة وخامسة على الرقابة التي قبلها. ورغم اننا ككتاب نكره الرقيب الذي اخترعوه خصيصاً لمن يسمون بالشعوب المتخلفة . الا أنني غالباً وانا اقرأ هذه الكتب الرديئة .. اتمنى ان تكون هناك رقابات لنتخلص من هذه الرداءات .

الرقيب ، واجباته محددة ـ الا يكون هذا الكتاب او هذه المطبوعة ، مسيئة الى النظام الحاكم او الدين او الاخلاق .. لكن هذا الرقيب العتيد مثلاً لا يدخل في رداءة هذه المطبوعات.. ألم تقرأ ان كتاباً حاز على مساحة نشر واسعة في بلدان عدة ومنع في هذا البلد او ذاك ؟

وكثيرة هي المطبوعات ـ مجلات وكتب ـ التي تتحدث عن الحرية والاستبداد والسجون الملأى بالابرياء منعت في بعض اقطارنا العربية والعراق منها ، لانها تحك على الجرح وان الرقيب العتيد من منظوره الضيق لا يريد ان يوعّي الشعب على مثل هذه المطبوعات ويذكر مايحدث بين ظهرانيهم ..

والرقيب بحكم ثقافته المحدودة جداً ، لا يبحث في النص الا عن الاساءة السياسية او الدينية التي يعتبرها اساءة ، وهي قد تكون غير ذلك ، او عن السطر الذي يكون مساً بشخصية ما وقد يكون غير ذلك .. هنا فقط تتجلى عبقريته ، لكنه يمر مروراً عابراً على النص الادبي من الناحية الفنية ، اذ لاتهمه هذه الناحية ولا يفهمها اصلاً .. فكم من الكتب التافهة مرت على

الرقيب وسمح بها .. ولا أظن ان وزراء الاعلام او الثقافة لا تهمهم هذه الناحية، ولكنهم لم يوجدوا نصاً قانونياً يسمح بمصادرة التفاهة والسخافة وصناعة الضحالة ..

من هذه الناحية اتمنى ان تكون هناك في بلادنا رقابات على الرقابة ، والحرية تنتهي عند حرية الغير ، واذا كانت الحرية مضمونة في القوانين فيجب ان تكون من باب منع التافه عن الناس والسماح بالجيد ..

هذا هو مفهوم الرقابة في نظرنا ، رقابة على هذه الفوضى الضاربة اطنابها في الاوساط الثقافية في اختيار الجيد فقط وطرح الردئ .. واذا طبقت هذه القاعدة مع الايام يصبح عندنا كتاباً جيداً على اساس ان العملة الجيدة تطرد الرديئة .. واما الزبد فيذهب جفاء واما ماينفع الناس فيمكث في الارض .

ـ97ـ

تنتقي السينما قصصاً حقيقية من الحياة وتضعها في قالب درامي لتكتسب بالتالي مزيداً من الصدق والواقعية . وبقدر مايقترب الفن بعامة والسينما بخاصة من حكايات الناس وآلامهم وافراحهم بقدر مايكون الوقع اعمق في نفس المتلقي او المشاهد . ولنا ما لايحصى من الامثلة في السينما التي انتقت قصصاً حقيقية ونقلتها الى الشاشة . هذا اذا لم نذكر الافلام التاريخية المستندة الى وقائع مثبتة لا نقاش حولها .

والاهمية التي يرتديها نقل الواقع الى السينما تنبع من امور عدة . اولها ــــــ ان الانسان لا يفتن بشيء اكثر رؤية ذاته مجسدة في شخصيات ممثلين ينقلون معاناته وهواجسه واحلامه وكل ما يقلقه في الحياة ضمن قالب درامي يستدر عطفه وتفاعله ودموعه او ضحكاته . وما يخرج عن هذا الاطار الواقعي يغدو محض تركيبات خيالية وان ادهشت المتفرج فهي لا تلقى في نفسه صدى قصة واقعية حدثت فعلاً بفصولها وشخصياتها الثابتة تاريخياً .

ثانياً ـــــــ من حق الفن ان يلجأ الى الخيال اذ غالباً ما تفترض ان هذا الأمر او ذاك مستحيل الحدوث في حين انه على العكس محتمل الوقوع في حياة اناس مختلفي الطباع والميول عنا ولا قاعدة واحدة تحدد السلوك البشري .

ثالثاً ــــــ ثمة تيار فني نشأ في السينما كما في الرسم والنحت والمسرح والقصة وهو مايعرف بالمدرسة الواقعية والمقصود بالواقعية نقل مظاهر المجتمع الانساني وتفاعلاته في شكل قريب جداً من حصوله في الحياة الفعلية .

ـ98ـ

في رأيي ان كل انسان مبدع هو فنان ، فالكاتب فنان والشاعر فنان والرسام فنان والموسيقار والعالم .. كل منهم فنان حقيقي . وهذا الفنان انسان غير عادي ، فهو دائما ذو طبيعة حساسة جداً ومزاج غريب الاطوار ، ونفسه تنفعل دائما لأقل شيء ، فكل شيء يؤثر فيه، لذلك فهو يحمل شحنة شعورية وذهنية عالية وربما شعر انه غريب وسط الجميع ابتداء من عائلته حتى مواطنيه .. ولاشك ان اي مبدع يحتاج لمناهل تغذية وتبقي على الحياة فيه ، واعتقد ان اهم هذه المناهل : التاريخ والادب والعلم والفن والفلسفة . وليست هذه المناهل بضرورية فقط للمبدع بل انها هامة جداً لتنشئة اي مثقف ثقافة بمعنى الكلمة.

وهذه المناهل هي مقومات اساسية يقوم كل منها على الآخر ويرتبط به ارتباطاً عضوياً. فكل من الادب والفن والفلسفة يقوم على حركة التاريخ اذا سلمنا بان التاريخ شخصيات تفجر احداثا وظواهر او العكس ، والعلم هو التطبيق العملي لكل ما ينبثق عن الشخصيات والاحداث من افكار ونظريات واختراعات.

لذلك يمكن القول بان المثقف الحقيقي لا يستطيع تمثل اي عمل ادبي او نظرية او تيار او اختراع او لوحة او اي رائعة فنية الا اذا ردها الى اصولها التاريخية وانعكاساتها الفنية او الفلسفية ، اي في مجالات التجسيد او التمثيل او التجريد او العقلنة ومن ثم ارى ان كل فنان او مثقف ثقافة اصيلة او اكاديمي او من اراد ان يكون كذلك في حاجة ضرورية الى الاستفادة من هذه المناهل الاربعة ان لم تكن الخمسة لكي تكتمل دائرة الثقافة والابداع.

ـ99ـ

تستطيع ان تكتشف الصدع الكبير بين صورة الحياة ومضمونها وبين الشعارات واللافتات العريضة التي ترفعها الامم حين تتبع بدقة شيئاً اسمه التعصب هذا السرطان الاخطبوطي الذي يمكن له ان يقتل كل شيء جميل في حياتنا بدءاً من سقوط الادارات وتدني الانتاج وانتهاء بالانتماء والانفصال عن القيم الاصيلة وصولاً الى حالة الفهم الضيق ، بمعنى الالتزام ، حتى وان ارتبط هذا الالتزام بالوطن .

واذا كنا قد تخلصنا من اصفاد الاستعمار وتحررنا واصبحنا نملك استقلالنا فاننا مازلنا نعاني من اصفاد المتعصبين الذين يرون في العقيدة او المنبت او الفكر.. جرائم يجب ان يحاسب اصحابها بتصنيفهم في قوائم سوداء..

وعلى الرغم من نسبية سيادة الديمقراطية والتركيز على حرية الانسان ومبدأ التساوي، فان جيوبا من الحقد والكراهية مازالت موجودة بيننا تشكل نشازاً يعكر صفو هذه السيمفونية الرائعة التي نسميها العدالة ، وحرية العقيدة وحمايتها من تدخل المتعصبين والمتطفلين والماكرين وراكبي الموجة.

في عراقنا اليوم يشهد التكوين النفسي بأن حياتنا قائمة على الاعتدال والعراقيون في محافظتهم او تقدميتهم ينتظرون في ارتياب الى كل لون من الوان التطرف والتعصب.. وقد اجتازوا طريقهم عبر التاريخ بالتمسك بالحفاظ على الجوار ومبادئ المحبة والاخاء والسلام والتضامن ، وهذا هو الموقف المتمدن بل آية في المدنية . اما القلة القليلة من اولئك المتعصبين، فهم خصمك وخصمي وخصم العراق الى يوم القيامة ، وما أحسب هذه القلة تمثل وطناً خالداً مزروعة فيه كل قيمة جميلة تسير بنا الى طريق المجد حتى استطعنا ان نتجنب طيش الامم التي تحرق نفسها بنار العصبية ، وما القلة القليلة .. النفر المتعصب .. الا ناراً تأكل نفسها ، واعوذ بالله.

ـ100ـ

يتساءل صديق عن السبب الذي يجعلنا نحن الكتّاب اشبه بقبائل من طـــــائر البوم الباحث عن الخراب باستمرار . وبدلاً من ان اقدم له مرافعة طويلة اجتر فيها البديهيات التي يمضغها الصحفيون والكتّاب عادة ، ومفادها ان الخبر السلبي هو الخبر الوحيد الذي يستحق ان تسلط عليه الاضواء ، تذكرت مرافعة كان يرددها احد فلاسفة القرن الماضي في هذا الموضوع بالذات.

كان الفيلسوف يؤكد ان العالم ينقسم قسمين ، هناك الذين يكتبون وهناك الذين لا يكتبون، بالنسبة للصنف الذي اختار مهنة الكتابة فانه يمثل اليائسين والسوداويين. واما بالنسبة للقراء فانهم يمثلون الفريق الذي يعترض على البأس والسوداوية ويعتقد انه يمتلك نوعاً من التوازن الذي يحميه من السلبية. ولكن المفارقة تكمن في ان هؤلاء القراء لو امكنهم ان يكتبوا وهو يعني بذلك الكتابة بكل ماتنطوي عليه من مسؤولية ، فانهم كانوا سيكتبون بقدر مشابه من السوداوية والبأس والوجوم.

والواقع ان هؤلاء اليائسين ينتمون بدورهم الى صنف البوم ، ولكن عندما لا تسنح لهم فرصة ان يصبحوا مهمين من خلال بأسهم فأنهم سيجدون ان من العبث ان يستسلم المرء لليأس وان يكشف عن مشاغره تلك.

ترى هل هذا هو معنى قهر اليأس والتغلب عليه ؟