الأيديولوجي الهارب من الحقيقة

 

ثمة شفاهية تحوّلت لكثرة ترديدها وتضمينها في كتب وموسوعات ومناهج تلقينية؛ إلى مقدّسٍ لا يمكن المساس به، فما إنْ تقُلْ عكس ما ردَّدته الألسن وأنصتت له الآذان بعين الرضا حتى ترى الآخر؛ مستمعًا أو قارئًا؛ يُستفزّ وكأنك مسست مقدساته وعقيدته بل عرضه وشرفه؛ بمفهومه الشرقيّ. يحدث معي عادةً؛ بل دائمًا؛ ما إن يَجْرِ الحديث عن الفرس على سبيل المثال، مع الاعتزاز والاحترام لمنجزهم الحضاري، طارحًا رأيًا لم يثبت خطله ومجافاته لروح البحث العلمي المستند على براهين وأَدلَّة؛ ألا وهو: أين الحضارة الـمَدَنِيّة الفارسية العريقة، وكيف يُتّهم العرب بحرق مكتبة الري (قرب طهران) وكانت تحوي مليونَي كتاب، ولم يُحدثنا التاريخ عن مؤرخ فارسي واحد، ولا شاعر ولا أديب واحد؟ كيف احتفظ التاريخ لنا بأسماء مؤرخين وأدباء وكُتّاب وقوائم بعناوين مؤلفاتهم ما وصلنا منها وما احتفظ التاريخ لنا بعناوين ما فُقِدَ منها، بل نعرف تواريخ وأمكنة ولاداتهم ووفياتهم ونتفًا من سيرهم الذاتية، وهؤلاء كانوا في العراق وسورية الكبرى ومصر وآسية الصُّغرى (تركيا اليوم) ومناطق من إيران نفسها، لكن هذا التاريخ بَخل علينا باسْمِ مؤرخ فارسي واحد، وشاعر واحد؟

ما إنْ أُنْهِ أسئلتي هذه، حتى أتلقى صفعات الاستنكار بل السخرية أحيانًا، وفي أحايين اتهامي بالعنصرية والتعصب القومي العربي، ومعظم هؤلاء إن لم يكن جميعهم، يرددون كلامًا، أشعر عند سماعي له، بأن الشهادات العليا التي يحملونها، ومؤلفاتهم وإبداعاتهم، لم تُحصّنهم من الوقوع في فخّ الشفاهية التلقينية، المؤدلجة والتي ضَخّت طويلاً في السرديات الكتابية والشفاهية على السواء، باللغة العربية وغير العربية معًا.

أغلب هؤلاء، ما إنْ أُنْهِ طرح أسئلتي؛ والتي أحرص أن أبدأها بجملة (قبل الإسلام) كي تكون أسئلتي دقيقة للغاية؛ حتى أُرشق بأجوبة تجعلني أعتصر ألـمًا لسماعها من شعراء وأدباء ونقّاد يحملون شهادات أكاديمية عليا، فكأنهم أدخلوا في دورة تلقينية لغسل الدماغ، إذ اشتركوا جميعًا بجواب واحد، وهو ذكر أسماء مؤرخين ونحويين وفقهاء ظهروا وبرزوا وأبدعوا تحت مظَلّة اللغة العربية.

ثقافية تلقائية

أي أن الشفاهية التلقينية التي اعتادوها وتشرَبوها، قامت بمسح جملتي ( قبل الإسلام، وبلغة فارسية) تلقائيًّا، ولأن الفرس لا وجود لمؤرخين وباحثين وأدباء وشعراء لهم بلغتهم إن لم يكن حتى بلغات أخرى، قبل منتصف القرن السابع الميلادي، وربما قبل بدايات القرن الثامن الميلادي، فإن الجواب يأتيني مباشرة متضمنًا أسماء سيبويه الذي وُلدَ بعد بناء بغداد على الأرجح، أي بعد منتصف القرن الثامن الميلادي.

الفردوسي (توفي 1020 ميلادية) وعمر الخيام (توفي 1131ميلادية)، أي أنهم يستشهدون بأول شاعر كتب شعرًا بلغة فارسية، والذي يفصل بين موته وموت مؤسس الإسلام 388 سنة، وعمر الخيام الشاعر الأشهر عالميًّا والذي توفي بعد وفاة الرسول محمد (ص) بـ499 سنة.هكذا تخلق الشفاهية، وتحوّل أعدادًا كبيرة من المثقفين إلى صدى، يرددون مزاعم وادعاءات قوميين متطرفين وأوهامهم، بلا إدخال المعلومات في مختبرات البحث العلمي، وهنا تحضرني حادثة تكررت معي، أي أنني سمعتها من أساتذة أجلاّء لهم باع في التدريس الأكاديمي وبعضهم في الإبداع.أعني تردديهم لمزاعم قومي متطرف مؤدلج، اعتنق قومُه الإسلام في القرن السادس عشر الميلادي، وبسبب مناطقهم الوعرة والتي تقع معظمها في العمق الإيراني على الحدود مع العراق، فقد حافظوا على وثنيتهم,هذا المتطرف ردَّدَ أمام هذه النخبة بأن العرب أجبروهم على الإسلام، و كان يسخر “هذا دينكم فخذوه”.فما كان منهم إلاّ تصديقه، وحين حاولت تصحيح معلوماتهم، رُميت عند بعضهم بأني متطرف إسلامي وعروبي، وهذه لا تليق بي بحسب وصف بعضهم، وكأن ردّ مزاعم وأوهام واتهامات المؤدلجين العنصريين الموتورين، منافيًّا لِقِيَمِ الحداثة وحقوق الإنسان وحرية الرأي والدولة الـمَدَنية التي أُومِنُ بها.القول إن قوميات وإثنياتٍ لم تعرف التدوين وليس لديها أدباء ومؤرخون وباحثون سبقوا الإسلام أو سبقوا القرن العشرين، لا يعني معاداة هذه الفئات، مثلما القول إن اليهود خليط من أعراق وأجناس شتى ومعظمهم ليسوا من نسل يعقوب، وإن سكان فلسطين بأديانهم كافة ممن يعيش فيها على امتداد أجيال وقرون هم ورثة فلسطين ثقافة وعقائد؛ ليس مناهضة لليهود، فالمنطق العلمي يرفض النقاء العرقي، مثلما يرفض الإقرار بمزاعم وأوهام متطرفين نسَبُوا أمجادًا لهم سبقت الإسلام أو سبقت الحرب العالمية الأولى، بلا أدلة علمية.