(الحلقة الأولى)
اوجع مفارقة في تاريخ العراقيين هي تلك التي حصلت في التاسع من نيسان 2003،ففيه كانوا قد حلموا بالافراح بنهاية الطغيان ..فاذا به يتحول الى بوابة للفواجع والأحزان. وكنّا نحن العلماء والأكاديميين والمثقفين المحبين للوطن والناس قد ابرأنا ذمتنا بأن نصحنا المحتل بعد شهرين ونصف من دخوله المنطقة الخضراء.ففي 24/6/2003 كتبنا خطابا موجها الى السيد بريمر بوصفه حاكم العراق موثق في صحف عراقية،نلتقط منه نص عبارة واحدة: (..وصحيح انكم غمرتم معظم العراقيين بالفرح لتخليصهم من نظام رهيب وكابوس مرعب لكنكم بدأتم تصادرون هذا الفرح منهم ،وأن ما فعلتموه هو انكم اخرجتم حاكما من قصره لتدخلوا انتم فيه ،وبضريبة باهضة..فكان ان حصل لديهم انكسار نفسي من خيبة أمل نخشى عليكم ان تتحول الى قطيعة نفسية ،ويغير حتى المتفائلون بكم ما طبعوه عنكم في مخيلتهم :"ما اجمل الجديد" الى "ما اقبحه")..وهذ ما حصل!..ذلك ان امريكا التي جاءت لتسقط نظاما..قامت باسقاط دولة بكل مؤسساتها لاسيما الجيش والشرطة. وما حصل في 9 / 4 / 2003 بقيام قوات التحالف بغزو العراق، وما نجم عن هذه الحرب التي اكملت سنتها الرابعة عشرة قدم لنا دروسا في مجالات العلوم والمعرفة المختلفة: السياسية والاجتماعية والنفسية والاقتصادية والدينية والثقافية والاخلاقية،على صعيد الفرد بوصفه انسانا والجماعات والمجتمع والسلطة..والعلاقات التي تحكم هذه الأطراف،وكيف تنشأ الصراعات والى ماذا تفضي،والعنف والضغوط النفسية وقوة تحمل الشخصية وما نحو ذلك من امور من قبيل ما يحصل للقيم والنسيج الاجتماعي من تخلخل او انهيار كالذي حصل لقيمة الحياة المقدسة في المجتمع العراقي. اننا، نحن السيكولوجيين ، نعمد الى اجراء التجارب على الفئران في المختبر لمعرفة كيف تتصرف حين نعرضّها الى موقف معين لنستفيد من نتيجة التجربة فيما لو تعرض الانسان الى موقف مماثل.وقد نجري احيانا تجربة على انسان او مجموعة من افراد (ضمن حدود الاخلاق ) لنعرف مثلا مدى قدرتهم على تحمل ضغط معين . وما حصل في 9 نيسان أن العراق صار بكامل ارضه مختبرا لاجراء تجارب ميدانية فريدة من نوعها على 27 مليون من البشر( من الأطفال الى الشيوخ ومن كلا الجنسين ) لا يمكن اجراؤها في المختبر حتى على الفئران.وكان على علماء النفس والاجتماع – لاسيما المتخصصين منهم في علم النفس والاجتماع السياسي – دراسة ما يحصل للطبيعة البشرية والمجتمع،ليس فقط في ظروف حرب شاملة باسلحة تدميرية هائلة ليس في مفردات قاموسها "احترام قيمة الحياة"، انما ايضا ما ينجم عنها من ضحايا وهجرة وتهجير وفقر وبطالة وتفكك اسري وتعصب بانواعه وصراعات على المصالح والهويات،وعنف وقتل في مشاهد لا يستوعبها عقل ولا يهضمها منطق. ما حصل يقدم دروسا تشكل وثيقة تؤرخ لواحدة من أصعب المراحل التي يمر بها العراق في تاريخه الذي ينفرد به ليس فقط بمنجزاته الحضارية انما في حروبه وفواجعه ايضا،وفي ذلك عبرة للقيادات السياسية وللعراقيين واميركا ايضا. كان اول درس سيكولوجي-اجتماعي قدمه العراق للبشرية ميدانيا(مختبريا) نصوغه بما يشبه النظرية: " اذا انهارت الدولة وتعطّل القانون وصارت الحياة فوضى ..شاع الخوف بين الناس وتفرقوا الى مجاميع أو أفراد تتحكم في سلوكهم الحاجة الى البقاء ..فيلجئون الى مصدر قوة أو جماعة تحميهم ، ويحصل بينهما ما يشبه العقد ، يقوم على مبدأ الحماية المتبادلة ". وكان هذا هو التحوّل السيكولوجي الأول الذي حصل للعراقيين بعيد مزاج الفرح الذي شاع بين معظم العراقيين بالخلاص من الدكتاتورية. فلقد كان شيئا أشبه بالخيال ان يستيقظ العراقيون صباح التاسع من نيسان وقد وجدوا انفسهم انهم تخلصوا من كابوس رهيب جثم على صدورهم اكثر من ربع قرن . والكل يتذكر ذلك الرجل الذي مسك صورة صدام صباح ذلك اليوم وهو يضربها بالنعال ويخاطب العالم بانفعال :ياناس ياعالم هذا مجرم دمّر العراق وقتل العراقيين ، وأوصل رسالة عفوية –للعرب بشكل خاص –أنهم لم يفهموا بشاعة ما جرى للعراقيين على يديه . كان فرح العراقيين معجونا بدهشة أن ما حصل يصعب تصديقه .فللمرة الأولى في تاريخهم يفرح العراقيون بالقضاء على حاكم دمّر وطنهم وأذلّهم وقتل أبناءهم في حروب حمقاء وفي سجون مظلمة وفي الشوارع بوضح النهار .وكان هو الحاكم العراقي الوحيد في تاريخ العراق الذي سجل أعلى الأرقام في ترمّيل النساء وتيتيم ألأطفال وفي جعل المهندسين خريجي الجامعات يبيعون (اللبلبي)في الشتاء و(الموطه ) في الصيف في صنعاء وعمان وهم أبناء أغنى بلد في العالم!. غير أن مزاج الفرح هذا لم يدم سوى أيام .لم يعلم العراقيون حينها ان الذي سقط ليس نظام صدام حسين فقط انما الهوس الامريكي اسقط الدولة بكاملها . ويعلمنا الدرس أن خيمة الدولة اذا سقطت (حتى اذا كان نظام الحكم فيها دكتاتوريا ) ولا توجد خيمة اخرى تجمع أهل الوطن فان الناس يصابون بالذعر مدفوعين ب " الحاجة الى البقاء " فيتفرّقون بين من يلجأ الى عشيرة أو مرجعية دينية، أو تجمع مديني أو سكني، أو تشكيلات سياسية أو كتل بأية صفة كانت. والذي زاد من مشاعر الخوف بين الناس، وتوزعهم على مرجعيات اجتماعية وقومية ودينية لا حصر لها، أن مزاج الفرح بسقوط الدكتاتورية امتزج بمشاعر الألم والمرارة التي تدمي القلب بتعرض بغداد الى النهب والسلب وحرق مؤسسات الدولة بشكل لم تشهد له مثيلا في أحداث تاريخ نهبها التي زادت عن العشرين. وكان أن اتسعت الكارثة بشكل جنوني لدرجة أن الوطن كلّه صار ينهب من قبل أهله!*.
من هنا بدأت " ثقافة الاحتماء " وحصل تحوّل سيكولوجي خطير، هو أن الشعور بالانتماء صار الى المصدر أو القوة التي تحمي الفرد، فيما تعطّل الشعور بالانتماء الى العراق وتحول الى ولاءات لا تحصى. ومما سهّل على العراقيين التخلي عن انتمائهم الى العراق، هو أن النظام السابق ساوى في الانتماء بين العراق ــ الوطن ، ورئيس النظام ( صدام حسين هو العراق ). وثقّف الناس على مدى ربع قرن عبر قنواته الإعلامية ومؤسساته التربوية والكوادر الحزبية بهذه المعادلة التي تختزل وطنا بحضارات عريقة وشعبا بقوميات وتنوعات مختلفة في شخص رجل واحد.. وانه عندما سقط رئيس النظام واختبأ في حفرة تحت الأرض، انهارت تلك المعادلة نفسيا"، فتوزع الــ " 27 " مليون عراقي الى ما قد يزيد على المليون انتماء. ولعل الدرس البليغ هنا هو أن الدكتاتور أو الطاغية أو الحاكم الذي يكرهه شعبه ، اذا أطيح به من قبل قوة خارجية ولم يطح به أهله ،فان الناس يفتقدون " البطل " الوطني الذي تطمئن اليه قلوبهم ويمنحهم الشعور بالأمان ، فيما يتملكهم الشعور بالخوف وتزايد القلق بعد صحوتهم من فرحة الخلاص من جلادّهم التي جادت بها عليهم القوة الأجنبية ، فيتفرقون ويصيرون أمام واقع نفسي جديد، هو: إن الولاءات المتعددة في المجتمع الواحد ، الذي ينهار فيه انتماؤه الذي يوحّده طوعا" أو قسرا" لا بد أن تتصارع فيما بينها على السلطة ، حين لم يعد هناك دولة أو نظام. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ • بوصفي شاهد عيان، فأن مؤسسات الدولة تعرضت للنهب في 8/ نيسان / 2003 وليس التاسع منه. ففي صباح ذلك اليوم كنت أرى ،من شباك شقتي، أربع دبابات أمريكية تربض في الصالحية بجوار تمثال الملك فيصل الأول، وجرى نهب ممتلكات وزارة العدل التي لا يفصلها عن هذه الدبابات سوى رصيف الشارع. .على مرأى و " تشجيع " من الجنود الأمريكان . فيما بدأت الحرائق في بغداد في 12 نيسان 2003، إذ شهدت اشتعال النار في الطابق العلوي من بناية البنك المركزي العراقي، وفي الركن الأيسر الأرضي من مبنى وزارة العدل ، وفي مبنى الإذاعة والتلفزيون ومبنى وزارة الإعلام. وكنت أرى من على سطح العمارة التي اسكنها في شارع حيفا، الحرائق حيثما أدرت وجهي في سماء بغداد.
|