تفكيك شفرة الدولة العميقة
هل “الدولة العميقة” هي الشبح السري الهدام الذي يقوض الحكومات في العالم؟ أم هي مجرد عبارة مختلقة تتستر خلفها مجاهيل عديدة  لا يراد  كشفها؟  هذا التساؤل  أضحى  ملتبسا   في عقولنا  بعد أن طفا اصطلاح “الدولة العميقة” فجأة في الإعلام دون أن يتحوّل إلى مفهوم متداول قادر على أن يترسخ في الوعي والتنظير السياسي فالبعض اعتبره فكرة مشابهة لنظرية المؤامرة والبعض الآخر وجد فيه تبريراً للتهرب من الحقائق الموضوعية التي تواجه جميع دول العالم سواء المتطورة منها أو النامية ، وعلى العموم فإن حل وتفكيك شفرة الدولة العميقة سيعطينا جواباً لأغلب الأسئلة المحيرة التي تحيط بأداء الدول الواقعة في مطبات الفساد بكل أشكاله المافيوية. من الواضح انه لا يوجد اتفاق نهائي على ماهية الدولة العميقة كمصطلح سياسي وربما من الصعب تحليل أو تفكيك مفهومها ومعرفة جذورها وآلية نشأتها دون العودة إلى المعطيات السياسية المؤسِسة للصراعات الفكرية الحديثة والمعاصرة ولفهم كل ذلك لابد من العودة إلى الجذور التاريخية للدولة العميقة التي نبتت في تركيا قبل أي بلد آخر ، حيث استخدم تعبير “الدولة العميقة” للمرة الأولى في صحيفة “نيويورك تايمز” قبل عشرين عاماً في مقال عن تركيا، وأوضح المقال أن “الدولة العميقة” تعبير يُطلق على مجموعة من القوى الغامضة التي تعمل خلافَ القانون. بعض المؤرخين يرجع وجودها إلى تاريخ أبعد ويدّعون أن بداية تكون الدولة العميقة في تركيا كان مع جمعية الاتحاد والترقي التي كانت تطمح لإلغاء السلطنة وإنشاء الجمهورية بدلها ، أما في مصر فليس هنالك تاريخ محدد لظهور الدولة العميقة التي لم يكن يعلم عن وجودها أحد حتى أشار لها الصحفي البريطاني “روبرت فيسك” في تغطيته عن الثورات العربية كما أكد عليها أيضاً الكاتب “فهمي هويدي” ، وربما ظن البعض أنها ترجع للعصر المملوكي و لو تم افتراض صحة بداية الدولة العميقة للعصر المملوكي فإن مصر وتركيا كلاهما متشابهتان حيث أن نظام المماليك في مصر قريب إلى حد كبير من النظام الإنكشاري التركي ، لكن كيف ظهر هذا المصطلح في الساحة السياسية في الغرب الأكثر تطورا وفي الولايات المتحدة 

تحديداً ؟
لقد أثار مفهوم الدولة العميقة اهتمام المتابعين للشأن السياسي من جديد بعد تردده رسميا قبل عدة أيام في كلام المتحدث باسم البيت الأبيض “شون سبايسر” ، يرى الكاتب والمحلل “روبرت باير” أن الترويج لمواجهة إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لما يسمى بـ”الدولة العميقة” هي “نظرية مؤامرة” من جماعة “اليمين البديل” وهم تيار يضم أطيافاً فكرية وسياسية مختلفة يُعرف أحياناً بـ”اليمين الجديد” أو “اليمين المنشق” ويتبنى أفكاراً أساسية تتمحور حول “مركزية العِرق الأبيض” وتفوقه على بقية الأعراق الأخرى، ويطرح قيام كيانات سياسية على أسس عرقية بديلاً عن نموذج المساواة والتعددية أو نموذج “الديمقراطية 
الليبرالية”.
 وفي كتاب لمحلل في  الكونغرس الأميركي “مايك لوفكرين” بعنوان “سقوط الدستور وصعود حكومة الظل” يرى الكاتب أن “الدولة العميقة” التي تشكل النخبة الثرية عمودها الفقري قد استخدمت النظام السياسي الأميركي في خدمة مصالحها وحوّلت الديمقراطية إلى “بلوتوقراطية” أي “حكم الأثرياء” وعسكرة السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فخلفت الضحايا والكوارث في الداخل والخارج، ويبدو أن الدولة العميقة في أميركا هي نتاج صراع اليمين البديل أو الجديد مع اليسار الليبرالي المطالب بعدالة ترعاها الحكومة الأميركية والذي يصر على ما يشبه “عزلة” أميركا وعدم تدخلها في شؤون العالم، ولهذا الصراع ارتباط بمصالح النظام العالمي الذي يرى في الدولة العميقة حصان طروادة داخل كل الشعوب فيمدها بالسند المادي والمعنوي، وفي بلداننا العربية لم تفلح الشعوب في هدم السلسلة المافيوية التي تكوّنت منها أنظمة الحكم وبالتالي نجد نتاج ودلائل وجود الدولة العميقة متبلورة فيها بوضوح بالتقاطع والتخالف بين الإخوان والعلمانيين الليبراليين في بلد ما وبين القوميين والإسلامويين في بلد آخر على الرغم من خطأ إطلاق لفظ الدولة العميقة على أنظمة الفساد الموجودة في بلدان عديدة يعمل فيها السياسيون ضمن شبكة فساد علنية 
ومفضوحة.
حاولنا في هذا المقال رسم مقاربة لمفهوم الدولة العميقة مع تجنب التناول التسطيحي القريب من نظرية المؤامرة لأنه غير ذي جدوى في تأصيل مفاهيم تنظيرية عميقة ذات فائدة لجمهور الناس أو المتخصصين على السواء وتم التركيز على تجارب الشعوب والدول لتفكيك شفرة الدولة العميقة وتحليل أسس ومبادئ تطورها بدون ملامسة الجذر العميق الغائر الذي ربما يتطلب الأمر قلعه من قبل حكيم أسنان بعد أخذ جرعة تخدير مناسبة إذا أرادت الشعوب العيش بهناء وبدون ألم .