رعب الخفافيش

 

أكثر ما يزعجني في تجربتي الوظيفية التي تربو على ثلاثين عاما في مؤسسات عديدة ومختلفة، اولئك الذين لايمتلكون من المهارات سوى مهارة ان يكونوا تحت ابط المسؤول، فبالرغم من انهم بلا انجاز واضح، وغير قادرين حتى على كتابة عبارة سليمة من الناحية اللغوية والفكرية، الا انهم الأكثر تأثيرا في قرارات المسؤول وآرائه، فرجال (الظل) هؤلاء الذين لايبرزون الى السطح الا في مناسبات تكون لهم فيها مصالح ومآرب شخصية، تمر من خلالهم مكافآت وعقوبات زملائهم، والتغطية على الفاشلين منهم، وتمرير قرارات التعيين وغيرها، فعندهم أساليب شتى في تحقيق ما يبتغون، لعل من بينها تخويف المسؤول او اغرائه بالجهات التي ينسقون لها، ويبدون له محط الثقة التي لايدانيها أحد، فيبعد مخلصين ويهمش مبدعين، يشيرون عليه بكل شيء سواء كانوا عارفين به ام غير عارفين، ويرسمون لمؤسسته صورا ايجابية، مع انها في عيون الآخرين خاوية وليس فيها ما يستحق النظر، ولا تحقق من وظائفها سوى الشكل.

 

مصيبتنا تكمن في هؤلاء الذين يحجبون أنظار المسؤول عن رؤية ما يجري، خاصة عندما يكون المسؤول غير متخصص في المجال الذي يقوده، فيبدو كالضرير الذي ما ان يخرج من حفرة حتى يقع في اخرى، تأملوا مؤسساتكم، واخبروني ان كنت مخطئا،  اذ يندر ان تجدوا مخلصا راضياً عن مؤسسته، او مبدعا وجد ان رعاته قد عبدوا له طريق الانطلاق وبقناعة دافعها رعاية الابداع، لكنك ترى الفاشلين والكسالى والكفاءات الوهمية وأصحاب مهارة (الهمبلة) يتقدمون الصفوف ويستمتعون بملذاتها ومكاسبها، بينما الذين وضعوا وطنهم في المآقي والذين نذروا أنفسهم لخدمة الناس يكابدون الحسرات وينخر نفوسهم مرأى بلادهم وهي تتدحرج نحو الهاوية.

 

هذه احدى الأمراض المستوطنة في غالبية مؤسساتنا التي لم نجد من يستأصلها بالرغم من تبدّل الأنظمة السياسية من أقصى اليمين الى أقصى اليسار على مدى أكثر من قرن، وفي ظروفنا الراهنة أصبحت البيئة مواتية لان يتضخم هذا الورم حتى بدا مستعصيا، الأمر الذي يحرم حياتنا من أن تكون بهيجة، ويحول من دون ان ترقى بلادنا، وينعم ابناؤنا بفرص متكافئة، الأفضلية فيها للمخلصين والمبدعين، فهؤلاء بناة البلاد، وليس رجال الظل الذين تحركهم نوازع شخصية، او أياد خفية من خارج المؤسسة.

 

علينا ان نعترف بفشلنا في ابتكار سياقات ادارية راسخة، والأدق ان رجال الظل لايريدون لهذه السياقات ان تتعزز في إن وجدت، ويقفون عقبة كأداء أمام اية محاولة لابتكار سياقات جديدة تشكل حاجة للمؤسسة التي يفترض بها التكيف مع متغيرات الحياة، بل وفي أحيان يتآمرون على المسؤول الواعي والمتخصص الذي يتطلع  لترسيخ سياقات عمل صحيحة، لان من شأن ذلك تحجيم أدوارهم السلبية،والتضييق على مصالحهم الشخصية، والويل والثبور لمن يفعل ذلك، فيذعن المسؤول الذي يريد الحفاظ على منصبه وتأمين قوت عياله والتمتع بما يوفره المنصب من وجاهة، ويلفظ خارج الدائرة من يتقاطع مع مصالحهم، وفي أحسن الاحوال يركن في زاوية منسية، وقلة اولئك الذين صمدوا واختطوا مسارا موضوعيا يذهب بمؤسساتهم نحو أهدافها ويحافظوا على شخصياتهم القيادية من تأثير (الخفافيش)، لكن بعضهم يقر بأنه كمن يمشي في حقل ملغوم، لايدري بالضبط في اية لحظة تبتر ساقه.

 

قد أكون مثاليا وأكتب اشياء جميلة، بينما كوارث الواقع أضخم من الامنيات،ومنها ما هو أغرب من الخيال كما يقول الروائي المصري محمد عبد الحليم عبد الله في روايته الشهيرة (شجرة اللبلاب)، وهي العبارة التي طالما اختبأ خلفها بعض المسؤولين الذين يجدون أنفسهم أكثر واقعية من كاتب حالم مثلي.

 

فالوطنيون الذين يريد للناس التمتع بحياة عادلة، وللجهود قدرة العطاء، عليهم ان يجدوا مخرجا للمبدعين والمخلصين مما هم فيه من محنة، فمجد الأوطان مرهون بهم، وليس بالذين ينعمون بالنور بينما يكابد رعيتهم الظلمة.