نطق بالكلمة النشاز، في مكان لا يبعد كثيراً عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، حيث يجتمع علماء اللغة الأجلاء، للسهر على سلامة لغة العرب، وتحصينها من خطر التدهور والاندثار، واثرائها بالمصطلحات العلمية المعربة، لتكون مهيئة لاستقبال كل أنواع المعارف.
وهو لم يستح من قول تلك الكلمة الأعجمية في الأرض التي أنجبت كوكبة من فطاحل العرب، في اللغة والأدب والفكر، منهم طه حسين والعقاد والمنفلوطي والحكيم، ولو كانوا أحياءً لحركت غيرتهم على اللغة ألسنتهم وأقلامهم بعبارات الاستياء والسخط.
ولعل الكلمة وقعت مثل الصاعقة على رؤوس الألاف من مدرسي اللغة العربية الذي فارقوا وطنهم وأعزتهم وأصدقائهم سنين طوال، لمساعدة العرب من الجزائر إلى دول الخليج على استرجاع لغتهم بعد قرون من الجهل أو عقود من الاستعمار.
وفي ذلك اليوم سجلت الكلمة عشرات من لاقطات الصوت وأجهزة التصوير، وبثتها القنوات الإعلامية إلى الملايين مباشرة، وكررتها نشرات الأخبار، ولم يستدرك قائلها فيعتذر، وأشك بأنه يدرك ما اقترفه لسانه.
في مؤتمر صحفي مشترك مع أمين عام جامعة الدول العربية نبيل العربي بحث عقل وزير خارجية مصر العربية عن كلمة تعبر عن مراده باللغة العربية فلم يجدها فاستعار كلمة إنجليزية: (أولريدي) already.
ليست (اولريدي) مصطلحاً علمياً، لم يعربه مجمع للغة العربية، في سورية أو العراق أو مصر، ولا هو تعبير سياسي معقد، قد لا يسعف العقل بمرادف له باللغة العربية، بل هي مجرد كلمة بسيطة، شائعة الاستعمال، ولو لم يستخدمها لما عميت الفكرة على المتلقين.
لو استعمل كلمة هيروغليفية، لقلنا بأنها لغة قدماء المصريين، وتلك أهون من كلمة إنكليزية، وحتى لو استعان بتعبير عامي، لما عظمت رزية لغتنا المظلومة.
ولم أتعجب من الصمت، فلا احتجاج ولا استنكار، من موالي أو معارض، متدين أو علماني، لأن كثيراً من العرب المعاصرين لا يقيمون وزناً كبيراً للغتهم، لغة القرآن الكريم والأحاديث والشعر والتراث، والكثيرون منهم خريجو مدارس لغات، ويتبارون أيهم أكثر فصاحة، في الإنجليزية أوالفرنسية، وربما قريباً الصينية وحتى التركية، ولو استمعت لأحاديثهم لوجدت أكثرهم يرطنون، وإن تكلموا بالعربية يتلعثمون، ونحوها وإملاءها يجهلون، حتى غدا الناطقون بالضاد اليوم لا يفرقون بين الضاد والظاء، والتاء المربوطة والمفتوحة.
من دون لغة تنطمس ثقافة الشعب، وتصاب هويته بالاهتراء، حقيقة أدركها المستعمرون الأوروبيون، لذلك عادوا لغات الشعوب الواقعة تحت استعمارهم واستيطانهم، ففي المدارس الداخلية الخاصة التي أقامها الأمريكيون والكنديون لأبناء السكان الأصليين وأجبروهم على الإلتحاق بها كان استعمال لغتهم الأصلية من أشد المحظورات على الطلاب، وفي بلاد المغرب العربي شخص المستعمرون الفرنسيون عدوين رئيسيين لاستعمارهم الاستيطاني، المناضلون من أجل التحرير واللغة العربية.
بالأمس القريب قامت قيامة الفرنسيين بسبب دخول القليل من الكلمات الإنجليزية على لغتهم، فنشطت حملة للتخلص منها، وكان الهم الأكبر للتركي أتا تورك "تنظيف" – حسب تعبيره - لغة قومه من الكلمات العربية والفارسية.
العرب اليوم في أسوء أحوالهم، يتقاتلون فيما بينهم، يقسمون بلادهم، ويثيرون الفتن بين طوائفهم، ويبددون ثرواتهم، لذا لن نندهش لو هجروا لغتهم، والأجدر بهم أن يتذكروا مصير العرب البائدة ويتعظوا.
|