يبدو ان هناك ترابطا جدليا بين أرحام الارض وارحام الأمهات في ولادة المفكرين والمبدعين .. مررت يوما بمتنزه في منطقة اليمّونة اللبنانية الغافية على ينابيع وبرك اليمونة العذبة المنسابة من جبالها الخضراء ،باردة في قيظ تموز اللاذع ...في تجوالي سمعت غناءا انفراديا هنا وهناك يصدح بين بساتينها الغناء، سألت صديقي اللبناني عن سرّ أصوات الغناء المميزة، أجابني باسما ... كيف ان هذه المعلومة قد فاتتك في لبنان؟ اما تعلم القول السائد ان كل من ارتوى من ينابيع اليمّونة يصير صوته شجيا في الغناء. وانا اكتب شيئا بسيطا عن ذكرى رحيل المفكر اللامع عزيز السيد جاسم وحياته الاولى في مدينة الغازية (مدينة النصر حاليا) جنوب العراق تبادر الى ذهني حديث صديقي اللبناني وعلاقة ينابيع اليمّونة بابداع الغناء، كما علاقة الطين وعذوبة ماء الغراف في الغازية، المدينة التي ولد فيها البيرق عزيز السيد جاسم، والتي أنجبت السيد عبدالمهدي المنتفجي والمؤرخ د. عبدالله الفياض وعالم الذرة د. رحيم عبد كتل والموسيقار المبدع طالب القرة غولي. ولد عزيز السيد جاسم كما يؤرخ لنفسه: «في قرية الغازية الوديعة ـ ناحية النصرـ فتحت عينيَّ على الدنيا وكانت صورة علي بن أبي طالب رضي الله عنه معلقة على الحائط ! تلك هي الصورة التقليدية الشائعة بألوانها الساخنة وبالمهابة المميزة لوجهه الكريم تحيط برأسه هالة نور!! وكانت صورة الأمام حاضرة في البيت مثل البيت والأب والأم والأخ والأخت! فلم يكن ممكنا أن يكون البيت بدون صورة!! .... بعد أكثر من ثلاثين سنة هي رحلة طويلة في الكدح والمعاناة الذهنية أهديت لي صورة لعلي بن أبي طالب مصورة عن متحف اللوفر بباريس وهي صورة اقرب إلى حقيقة علي من سواها !وربما هي من رسم أحد الرهبان ففي الصورة شموخ عجيب وقوة هائلة واستقرار تاريخي !كان عليٌّ راكباً حصانه حيث ظهر اعلى من حجعة السرج! ولكنه بدا متبوءا مقعدا تاريخيا شديد العلو...» كم كنت شغوفا بالاستماع اليه وهو يتسيّد جلسة الحديث في مقهى الميناء بشارع الامين قرب ساحة الرصافي صبيحة كل يوم جمعة يلتقي مع أصدقائه القدامى من أبناء الناصرية، وانا فتى في مقتبل العمر اذهب بصحبة والدي لما تربطهم علاقة صداقة مميزة، وكان وفاؤه يوم حكم على والدي في محكمة الثورة، كتب السيد عزيز السيد جاسم عمودا صحفيا عن تخبط رؤية الدولة وقراراتها التعسفية للقطاع الخاص حتى كان هذا العمود الصحفي سببا ليصدر صدام حسين أمرا بإعادة النظر في احكام محكمة الثورة بشأن التجار وإعفائهم من الأحكام الجائرة .. وبعد اطلاق سراح والدي سمعته يقول لوالدي بمزحته الذكية اللمّاحة وبسمته الرائعة " ابو قحطان حين كتبت المقال قلت اما يلحقني صدام حسين بك في الأحكام الخاصة بابي غريب او تكون حرا طليقا وها انت حر والحمدلله" ما رسخ في ذاكرتي حوار كان بينه وبين المرحوم علي حداد حول فعل الخير وعلاقته بخدمة الرب وان الحرية لا توحد الا الاحرار وكرماء النفوس. حتى بعدها قرأت في أدبياته رؤية انسانية ناصعة تشابه الحديث الذي تداوله مع الاصدقاء في ذلك المقهى العتيق .. «كل ما يدعو إلى الخير يتصل بعضه ببعض، وإن كل ما يخدم الناس يخدم الرب، وأن الجانبين الاقتصادي والسياسي للماركسية لا يتناقضان مع الإسلام، وان الاستعمار والظلم والدكتاتورية والقتل سواء.. هذه هي الحقيقة التي لا مراجعة فيها، وان الجماعات توحدها المصلحة. أما الحرية فلا توحد إلا الأحرار وكرماء النفس، وان الفكر الحر لا يعرف التأطير، وان الذهن الحر يتفتح على الدوام على الأفكار والمستجدات ويكرس طموحات وتطلعات الناس ، وإن المثقف الحقيقي مثقف حر، وبحكم ذلك فهو أكثر من سواه قدرة على معاينة ظواهر الاستعباد، وكذلك يكون أكثر من سواه إدراكاً لقيمة التوجهات السياسية التي تخدم الحرية وأكثر استبشارا بها.» لا ارثيك أيها النبيل الشجاع والمفكر التنويري بل إرثي نفسي في غيابك أيها البيرق الخفاق في سماء الحرية، لقد تعلمنا من كتاباتك جدلية الترابط الفكري وانت تنظّر للعراق وطنا يليق بتاريخه المجيد سومريا وآشوريا وبابلي تكتب، كانك العراق ورقيم الطين السومريّ وجذورك ارتوت بماء دجلة الدفاق في نهر تعاشقت موجاته مع خيال فكرك الباذخ انه الغراف في شواطئ الغازية في بلاد سومر. |