وأنا أدخلُ بغداد أتصفح سجل ذكرياتي فيها .. الدراسة والعسكرية والزيارات والمطاعم والمقاهي .. كل شيء إلا شيء واحد لا أتذكره وهو شارع المتنبي ! هذا الشارع أصبح فرض عين أو سنّة مؤكدة أو مذهباً لابد للمثقف من الإيمان بهِ .. لا أعرف من صدَّرَ هذه الأكذوبة على العراقيين الطيبين الّذين يصدقون كل شيء ! مئات الشوارع والفروع والمكتبات ودوائر التوثيق في بغداد وفي غير بغداد تعجُّ بالثقافة وبالكتب أكثر من هذا الشارع بأضعاف .. ولا أحد يهتمُّ بها .. عددٌ من باعة الكتب المعروضة على الأكشاك أو البسطات ومعامل صغيرة لصناعة الدروع والباجات ومكاتب غامضة .. وسكّير يقبع منذ عقود في بداية الشارع يبيع النضال أكثر من الكتب ومقهى شايها بارد ورائحتها غير طيبة ! قنوات فضائية لا همَّ لها إلا شارع المتنبي .. صحف ومجلات عراقية لا يكاد يمر يوم إلا وتجد موضوعاً أو تحقيقاً أو عموداً أو مقالةً أو خبراً عن هذا الشارع .. زوار أجانب يكون الشارع من أولويات زيارتهم إلى بغداد .. حتى الإرهاب والإرهابيين صدّقوا هذه الأكذوبة وفجروا حقدهم وشرهم في الشارع فسقط المساكين الفقراء شهداء التضليل والتحريف .. تدخلُ في هذا الشارع ذهاباً وإياباً وشرقاً وغرباً فلا تخرج إلا بكتاب أو ربع كتاب أو سلام على صديق قديم صدق بهذه الأكذوبة .. في الدراسات العليا عليك التجول بين كل المكتبات والمطابع .. الخ وإحتجتُ نسخةً لكتاب في رسالتي فأخبرني زملاء لي بأنها في شارع المتنبي في المكتبة الفلانية .. فذهبتُ إلى المكتبة الفلانية ووجدتُ ما أريد ملقى أمامي على طاولة ملأتها فضلات إستكانات الشاي على شكل دوائر فسحبتُ النسخة ومسحتها برباطي وهو من أرقى الأنواع ( بيير كاردان) مجداً للتواضع العلمي وسحقاً للأرستقراطية العلمية ! طلبتُ من اين صاحب المكتبة الفلانية بيعي النسخة فأحالني إلى أبيه فنظر إليَّ ورفض لأنَّ النسخة تباع مع الكل ! ورقة واحدة من مجموع 214102 ورقة ! وجدتُ نسخة مما أردتُ في مكتبة أخرى وبدون أي جهد .. شارع عادي حولهُ النفاق الأدبي إلى كعبة كاذبة .. وهناك مئات المكتبات والمنتديات والبيوت الثقافية والدور الأدبية في بغداد وفي كل محافظات العراق لم يلتفت لها أحد .. فقط شارع المتنبي وكأنه سوق عكاظ العرب .. خلصونا من هذه التبعات وإلتفتوا إلى ما يمكن أن يستفاد منه الناس فعلاً |