الكتابة الجميلة والكلام المعسول كلاهما يستران عيوبا ويسهمان في تلطيف العيوب بعيون القراء، ليتحول فعل الكتابة الى عملية تواطؤ بين الكاتب وقرائه حيث يُتحفهم بما يحبون سماعه وبدورهم يُسمعونه ما يحب ، فيهلل كل منهم الى الاخر بعبارات التفخيم والتبجيل. وهذا النوع من الكتابة يسهم بتضليل القارئ بدلا من تنويره ولكنه تضليل برغبة القارئ نفسه. هذه الرغبة هي خير تعبير عن وجه من اوجه الايديولوجيا القاتلة. فلو بحثنا عميقا لوجدنا ان هذا اللون من الكتابة انما يشبه الطلاء على الصدأ ، فالطلاء لن يزيل الصدأ ولكن يخفيه عن عينيك لمدة ، بينما تسري في الداخل عملية التعرية والتآكل. الكتابة الجميلة مثل الدواء المسكن الذي يشعرك بالراحة البدنية لحظات ولكنه لن يزيل عنك اصل الداء. انها نوع من خداع النفس وتضليلها ، فانت تمارس خداع نفسك وايهامها بالدرجة الاولى وان لم تشعر بذلك احيانا.
قديما ، كان الشاعر المداح يخاطب سيده الممدوح قائلا : ماذا تريد يا مولاي؟ أ ابعث في نفسك الفرح ام تريد ان ادخل على قلبك مشاعر الحزن؟ أضحكك ام أبكيك؟ واليوم يستعمل كثير من الادباء والكتاب والنقاد الاسلوب نفسه مع قرائهم طلبا في ترويج البضاعة حيث اصبحت العملية الابداعية بيعا وشراء ، انتاجا واستهلاكا حسب رغبة المستهلك تحت شعار: (هذا هو الماشي بالسوق ) و(الجمهور عاوز كده). ومن مظاهر التواطؤ لبسبب ايديولوجي ما يعرف بـ (الشلة الادبية) التي يجتمع افرادها على غايات ومصالح ومنافع مشتركة ، فينبري كل واحد منهم للدفاع باستماتة عن زميله على الرغم من ان هذا الزميل يكتب نصا لا قيمة موضوعية فيه وليس له قيمة جمالية. تلك النصوص سرعان ما تتحول من خلال بوق زميله الى اعمال عظيمة وابداعات كبيرة. هؤلاء وغيرهم يبحثون عن الراحة والدعة والمال والشهرة التي يوفرها لهم اصحاب الجاه والمال بينما يعيش اصحاب الافكار التنويرية في ضنك من العيش مغضوبا عليهم بسبب انهم لا يقولون اشياء تسعد الجمهور. فهم ينغصون عليه لحظات الاستمتاع باوقات الاستغفال التي تعود عليها . التنوير يُغضب الناس البسطاء وسراة القوم على حد سواء. فالبسطاء منشغلون بحياتهم اليومية بحثا عن لقمة العيش والحياة الكريمة وليس لديهم قدرة تتحمل سماع افكار جديدة تغير نمط حياتهم اليومي. وكذلك سراة القوم الذين ينعمون بمالهم وجاههم الذي تنجذب اليه نفوس هؤلاء المنتفعين من الايديولوجيا.
وهناك امثلة كثيرة تؤيد هذا التصور، نذكر منها : ان المتنبي لم يكن محبا لكافور الاخشيدي فلم تعجبه شخصيته ولا اخلاقه والاخير يعرف ذلك تماما ولكن الاثنين اتفقا على قواعد اللعبة وتقبلا شروطها. هذا يمدح بالكلام الجميل والقصائد الرائعة والاخر يغدق مالا ويوعد بالولاية. فتحول كافور من عبد قبيح بخيل الى رجل شريف كريم ولكن بعدما اخل كافور بوعده تحول الوئام الى خصام واستبدل المدح بالهجاء، واي نوع من الهجاء ؟ الهجاء القاتل. وليس المتنبي وحده من ينتهج ذلك السبيل بل ان جل الشعراء المداحين يسيرون على الخطى نفسها. وهناك مثال اخر يوضح كيف ان الايديولوجيا والتي من اشكالها (أُسمعك ما تُحب) قد اسهمت بوقوع الطاغية صدام في الفخ مرتين متتاليتين.الاولى في غزوه للكويت عندما كان قادته ينقلون له اخبارا سارة يحب سماعها ، بيد ان الواقع خلاف ذلك تماما، الامر الذي ادى الى هزيمة جيشه وانكساره بوقت قياسي. وتكرر الامر بعد عشرة اعوام حينما نقل له قادته انفسهم اخبارا عن انتصارات جيشه في ام قصر واطراف الناصرية حتى ايقن ان المسافة بين ام قصر وبغداد هي التي تفصله عن جيوش التحالف ولكن خلال ايام قلائل وجد نفسه مطرودا هاربا من بغداد.
فالكتابة الجميلة والكلام المعسول تشكلان في – الاعم الاغلب – خطرا لما يحملان من فعل ايديولوجي يؤدي بالنتيجة الى تزييف الواقع وتراكم الاخطاء بدلا من نقده واصلاحه وكشفه متناقضاته. طبعا هذا الامر ليس معناه تحريم الكتابة الجميلة وتجريمها بل هي دعوة لكشف الجميل نفسه والبحث عنه وتمييزه عن القبيح والنظر مليا في الجميل ربما تحول هذا الجميل الى قبيح بفعل القراءة الموضوعية و(العكس بالعكس قد يكون صحيحا ) عندما يتحول القبيح الى شي جميل. لذا فان الكتابة الصادمة التي تحطم القناعات المالوفة لدى القراء اكثر جدوى من الكتابة الجميلة التي تداعب مشاعرهم. القارئ بحاجة الى صدمة تعيد له نشاطه وليس بحاجة الى نغمة يسمعها طوال حياته.