النقد الشيعي الذاتي.. مراجعات على المراجعات... بقلم: مهنى الحبيل

 

 

 

 

 

خلال الأشهر القليلة الماضية برزت قضايا المراجعات في الفقه والمعتقد الشيعي من خلال أطروحات ثلاثة من أعمدة البناء الأيدلوجي للفكر الشيعي الحركي، وهما في ذات الوقت وجهاء لدى الطائفة في المنطقة، الأول الشيخ حسن الصفار، والثاني السيد محمد حسين فضل الله، والثالث الأستاذ أحمد الكاتب. 
بعض هذه الأطروحات قديم ولكن أُعيد بعثه، وبعضها حديث عُزّزت به نظرية التصحيح التي يتبناها هذا الطرف أو ذاك من مدرسة النقد الذاتي الشيعي، وتأتي هذه المراجعات زمنياً في سياق ما أظهرته تجربة الفعاليات والتنظيمات الشيعية الحركية في العراق، والتي لا تزال قائمة وآثارها الكارثية على وحدة الأمة وسلامة النسيج والصف الوطني والاجتماعي فيها، وتتناول هذه الشخصيات التداعيات الراهنة، ولكن من منطلق المراجعات الفلسفية والفكرية التاريخية ودورها في التقريب بين الطائفتين، مع إصرار كل هذه الشخصيات تقريباً على عدم الاعتراف بخطيئة هذه الأطراف العراقية مع عمقها الإيراني عن مسؤولية تفجير الاحتقان الطائفي وتغذيته على هذا النحو الذي جرى، وهو إهمال يلغي جانباً مهماً من جدوى تشخيص الأزمة الراهنة. 
ومع ذلك فإن ما جاء من مراجعات ليس بالقليل ولا المحدود، وله تأثيراته العميقة لو فُعّل واستُكمل على الساحة الثقافية المباشرة لمناضلي الحركة الشيعية في الوطن العربي، ولنعد لاستعراض بعض هذه المراجعات: 
وفقاً لما نشرته شبكة راصد في القطيف، والتي تعتبر من أهم المواقع الفكرية والثقافية للحركة الشيعية في عموم المنطقة، ولها جمهور ضخم ومتابعة كبيرة من داخل الحركة الشيعية وخارجها فقد طرح الشيخ حسن الصفار في ندوة مركز بحوث العلوم والثقافة الإسلامية في مدينة قم ورقة ثقافية حول ما سماه انتكاسة مسيرة التقريب بين المذاهب الإسلامية، وذكر في هذا الصدد قوله: "يجب ألاّ نسمح لهذه الانتكاسة بأن تتحول إلى حالة إحباط ويأس في نفوس الوحدويين، وإلى تراجع في عزيمة الإصلاحيين وتطلعاتهم للوحدة والتقريب". 
وحمّل الشيخ الصفار جزءاً من المسؤولية إلى "انبعاث تيار سلفي شيعي في الحوزات العلمية يركز على قضايا الخلاف المذهبي، ويضخمها، ويجدد أطروحات الغلو والمبالغة في بعض القضايا الولائية الشعائرية". 
هذا الغلو الذي ذكره الشيخ لم يعد آراء مبعثرة من هنا و هناك، ولكنه أصبح مادة ثقافية ملازمة لطرح خطاب الحركة الشيعية في وسائل الإعلام بقوة منذ احتلال العراق، بل كان ولا يزال هو المادة الثقافية والإعلامية للائتلاف العراقي الموحد منذ سقوط بغداد وتشكيله قائمته للانتخابات البرلمانية، وهو كذلك كان صدى قوياً ومؤثراً في استدعاءات الحكيم المتواترة في الساحة العراقية للتعبئة للولاء لمدرسة أهل البيت بحسب تعبيره وخطاب قناة الفرات ينضح بذلك. 
وفي سياق الموضوع اعتبر الصفار "أن نمو هذا التيار سيكون على حساب أصالة مدرسة أهل البيت، ويزيد في تعقيد العلاقة بين أتباعها وبقية المسلمين، كما ينفر الشرائح المثقفة الواعية من أبناء الشيعة". 
ورأى الصفار بأن من الصعب أن يقبل منا الآخرون إنكار اللعن والسب مادام موجوداً في نصوص دينية متداولة، وكذلك وجود ما سماه مقام كاشان (مقام أبو لؤلؤة المجوسي فاتل سيدنا عمر"، وهذا الاعتراف حول مقام كاشان يعتبر تاريخياً خاصة أن الأستاذ محمد صادق الحسيني الكاتب الإيراني المعروف ومستشار خاتمي الرئيس الإيراني السابق قد أنكر وجوده في حلقة الاتجاه المعاكس التي استضافته في الأشهر القليلة الماضية، واختتم الصفار ورقته بالطالبة بمعالجة جريئة من قبل (المرجعيات الدينية والجهات القيادية للعالم الشيعي). 
هذه الورقة حين عُرضت في الموقع أثارت حشداً كبيراً من التعليقات أفصحت عن قوة وتعمق هذه القضايا في وجدان الطليعة الشيعية الحركية المعبأة في تقديري كمخزون فكري منذ قيام الثورة، وإن كانت موجودة في كتب الأقدمين، ولكنها لم تكن مُفعلّة كعقائد لازمة حتمية لا يجوز التخلي عنها في الخطاب الإعلامي، ومع وجود تعليقات عديدة أيدت الشيخ إلاّ أن الأكثر كان معارضاً أو مستغرباً أو مُستفزاً، ومن هذه المعارضات تعليق أحد القرّاء على أن هذا اللعن للشيخين (ورد في زيارة عاشوراء والتي قال عنها المراجع العظام في النجف وقم أنها فوق الشبهات، وكتب آخر مستهجناً ومشيراً لأحد الدعاة الـحركيين للشيعة وهو الشيخ المهاجر (يا شيخ لقد أعلنها المهاجر لعنة الله على التقريب). 
وآخر علق بقوله: الشيعة لا يلعنون من جيوبهم بل يلعنون من لعنه الله ورسوله فهل نتنازل عن لعن المنافقين والخارجين والناصبين العداوة لمحمد وآل محمد؟ لا وألف لا. 
وبرز في تعليق لأحدهم مدى الصدمة الشعورية التي يستشعرها المناضل في الحركة بالدعوة لمثل هذه القضايا فقال: "وهل سيأتي اليوم الذي نحذف فيه الآيات المتعلقة باليهود والنصارى من القرآن لكي لا نجرح مشاعرهم". 
أما السيد محمد حسين فضل الله الأمين العام السابق لحزب الله واحد المراجع الرئيسة لشيعة لبنان وبعض أبناء الطائفة في الخليج فقد تحدث في مسائل عديدة وواسعة في لقائه مع (العربية نت)، وأشار -ونادراً ما تبرز مثل هذه الإشارة في الخطاب الثقافي للحركة الشيعية المعاصرة- إلى قضية الألوهية و علاقة المبالغة والتطرف الممتد والمتطور في شأن قدرات سيدنا علي -رضي الله عنه- إلى درجة تمس حقوق الباري -عز وجل- وشراكته في حقوقه وقدرته، فكان خطاب الشيخ فضل الله في هذه القضية المفصلية لدى أهل السنة الذين يعتقدون بأن مدار الإسلام الأصلي هو التوحيد لله عز وجل، وتطهير الجنان والقول والعمل من كل ما يفضي إلى نقضه، فكان تأكيد هذا المعنى المهم من قبل الشيخ نقلة نوعية في هذا الخطاب الذي استنكر فيه ما يورده البعض عن سيدنا علي. 
و انداح في حواره مع العربية إلى مسائل شتى كلها بلا شك تدعو إلى الاقتراب من منهاج أهل السنة من الأذان حتى التربة. 
ولكن الشيخ تجنب القضية المفصلية المهمة التي أثارت عليه المراجع في إيران وهو تشككه في حادثة كسر الضلع للسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، وموقف الشيخين المدّعى عليهما فيه، وهو ما وصل إلى حد تكفيره من بعض الأطراف وتحريم دفع الخمس إليه قبل أن يُصدر توضيحاً بدا فيه متراجعاً عن هذا الموقف التاريخي. 
وثالث هذه الشخصيات هو الأستاذ أحمد الكتاب الذي استضافه د. عزام التميمي في برنامج مراجعات لقناة (الحوار) عرض فيها الآراء المشهورة في كتبه عن الإمامة والغيبة والعصمة، وهو ثورة بلا شك في تاريخ التشيع إجمالاً نقض فيها الأستاذ الكاتب مفهوم عصمة الإمامة الغائبة التي لم يثبت ميلاد صاحبها الإمام الثاني عشر حسب تحقيق الكاتب، وبالتالي التشكيك بكل ما دون ورسخ وثبت من مدونات وفقه وأحكام على المخالفين، وهو هنا أهل السنة بناءً على هذه القضية.

**

 

وماذا بعد..؟

من الواضح حجم المساحة التي أقدمت عليها تلك الشخصيات في قضية مراجعة ما كان يعتبر دون دليل أو عقد شرعي وعقلي على أنه ثوابت من أساسيات التشيع، ولكني هنا بكل أمل وصدق أرجو أن تقتحم شخصيات النقد والتصحيح والمراجعات الرئيسية لمسيرة التشيع القضية الكبرى التي من خلالها في نظري يتم تحقيق مساحة مهمة بل ومشروع إنقاذ لوحدة الأمة الإسلامية، وهو ما غاب عن طرح الأساتذة الثلاثة: 
إنها قضية الموقف من الجيل الإسلامي الأول، لقد عكست ردود الأفعال والتعليقات هنا وهناك قوة هذه العقيدة التي ترى بأن المجتمع الإسلامي الأول الذي قاده أبو بكر الصديق بعد رسول الله، ومعه ثلة الأمة من المهاجرين والأنصار مجموعة من المرتدين من مشركي العرب، بغض النظر عن سبهم فقضية السب قضية سلوكية أخلاقية مهمة بلا شك، ولكن المفصل في الاعتقاد بأن هذا الدين قد أُختطف من قبل المرتدين العرب أو المشركين الذين أظهروا الدين لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكنهم كانوا يبطنون الكفر سوى الستة المنتجبين في اعتقاد التشيع المنحرف، وهو ما تسمعه من جميع هذه الشخصيات التي تدعو للوحدة، فهي تردف دائما الصلاة على الهادي صلى الله عليه وآله وسلم بقولهم وصحبه المنتجبين إذا نطقوا لفظ الصحبة، وهي ما يعني أن المنتحبين الستة هم أهل الدين، أما الآخرون فهم وكما أكدت هذه التعليقات الظالم الأول ويقصدون أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- ومن يليه، ولعل من أهم المكاشفات التي بعثتها هذه المرحلة الزمنية من الإيجابيات على الرغم من إيلامها اعتراف الجميع بأن تكفير الصحابة وعداوتهم لآل البيت وليس قضية سبهم هي من مسلّمات الفقه الشيعي الحركي المنحرف، وتم تثبيت هذه القضية بقوة ورسوخ بعد الثورة الإيرانية. 
هذه القضية المفصلية هي التي انفصل فيها التشيع المنحرف والتي اعتنى به العهد الصفوي عن التشيع العلوي العربي، وهو القاعدة الكارثية التي من خلالها أخفقت كل جهود المصالحة والوحدة؛ لأن هذه القاعدة تجعل أصحابها يؤمنون بأن العدو الأول المطلوب مواجهته هو: ليست مشاريع الاحتلال أو القوى الدولية المناهضة، ولكنهم أتباع وذوو الظالم الأول أبي بكر الصديق، وعلى ذلك يمكن التحالف مع سواهم وإن كان عدواً أو محتلاً، وهذه القاعدة هي التي مهدت لاحتلال العراق وتمزّق الأوطان وهي التي أدت إلى إخفاق ثلاث اتفاقيات لهيئة علماء المسلمين في العراق مع التيار الصدري بعد استدعائه إلى إيران عند كل مرة، وانتهت جهود التقارب والتضحيات التي بذلتها هيئة علماء المسلمين في العراق إلى فتوى حازم الأعرج المشهورة بهدم كل مسجد حسب تعبيره، وقتل كل إمام ناصبي والمسؤولية في رقبته كما قال، ولم يبق مسجد وصل إليه جيش المهدي لأهل السنة من السلفيين والصوفيين إلاّ فُجّر ونُحر بعض أئمته، وقُتلوا وقسْ على ذلك فتوى الآخرين مع قناعتنا الجلية بمسؤولية إضافية لجماعات العنف الوحشي القادمة من خارج العراق عن هذه الفتنة.