سلوك النكران!! |
النكران هو فقدان رغبة مواجهة المشكلة بوعي أو لا وعي. أو رفض الإعتراف بوجود أو بشدة الوقائع الخارجية القاسية , أو الأفكار والمشاعر الذاتية المؤلمة. وفي عالم البشر تتفاعل النفس الأمارة بالسوء مع النفس المطمئنة والنفس اللوامة , لتحقيق النتائج السلوكية وتحفيز الآليات النفسية الدفاعية , من أجل الحفاظ على مسيرة المخلوق البشري , ومساعدته على المروق وسط الشدائد والمحن. والنفس الأمارة بالسوء تتفاعل فيها الرغبة واللذة وقوة العدوان , وتسعى إلى تحقيق المتعة وتقليل الألم , وتحقيق الإرضاء الفوري للرغبات. أما النفس المطمئنة فهي الميزان المنطقي , الذي يحدد المنافع والأخطار الناجمة عن أي سلوك , أو المحيطة بأي موقف , وقد تتحمل بعض الخسارة والألم من أجل ربح مؤجل , وهي التي تنظر دائما بالخيارات وتمحصها جيدا. أما النفس اللوامة فهي التي تتحكم بالضوابط الأخلاقية , ومفردات الضمير القائم في أعماق الذات, وهي المسؤولة عن تمحيص الصواب والخطأ أيضا , لكنها قد تميل إلى التطرف والأفكار اللاواقعية حول ما يجوز أو لا يجوز فعله. وفي واقع تفاعلنا السلوكي , هناك صراع ما بين المتعة واللذة والواقع القائم من حولنا , وبين القيم والأخلاق والمعايير الموروثة , والتي تؤسس محتوى الضمير, وفي هذا الصراع يتجلى دور الآليات الدفاعية النفسية المختلفة , ومنها النكران وما يرتبط به من آليات مساندة. وهي وسيلة لا تحل الموقف المؤدي إلى التوتر والقلق , لكنها تحقق السكينة الداخلية بأساليب الخدعة والتضليل. وأصحاب هذا السلوك يتصرفون وكأنه لا توجد مشكلة , ويُظهرون المواقف الدفاعية المختلفة, كما أنهم يخفون مشاعرهم وعواطفهم , ويتجنبون الصراع وعدم الإتفاق , ويهربون من مواجهة النتائج السلبية , في محاولة للحفاظ على رباطة الجأش أمام المواقف الصعبة , والتي لا يمكنهم الخروج منها. وفي ذلك ارتداد ونكوص إلى الوراء البعيد. وإخفاء للحقيقة والتوهم بالتصرف بصورة طبيعية. وأصحابه يصرون على الظهور بصورة جيدة ومثالية , ويتعامون عن كل شيء يتعارض مع هذا التصور الوهمي الخداع. وهم يحاولون تجنب مخاطر التقصير بسبب المشاكل والخسائر الناجمة عن سلوكهم. ويبدون في معظم الأحيان لا منطقيين , أمام الذين يحاولون أن يواجهونهم بأية مشكلة يريدون لها حلا. ويبدو عليهم تبلد واضح في الأحاسيس والمشاعر تجاه المواقف التي هم بصددها , وتكون طريقة تفكيرهم سحرية وفنتازية , ويعتمدون على غيرهم في تواصلهم , ويفضلون أن يقوم الآخرون برعايتهم وتقييم سلوكهم, ولا يمكنهم أن يواجهوا الحقيقة المتعلقة بالمشكلة مهما كانت , ولذلك فهم يرفضون ويعادون مَن يواجههم بالحقائق والمشاكل القائمة. ويتميزون بالتفكير الوهمي والقول بأن كل شيء على ما يرام. وعندما يشتد الصراع ما بين الناكرين والمواجهين لهم بالمشاكل , تراهم يطرحون أفكارا خرافية ويتحدثون وكأنهم في حالة أحلام اليقظة, وبسبب هذه التفاعلات المضطربة يتحقق إنحراف مؤذي في التفكير والتبصر والنظر. كما يتصفون بالطرح الغير قادر على حل المشاكل , واتخاذ القرارات الصائبة , مما يُؤزم المواقف ويعقد الصياغات المختلفة في الحياة. والناكرون يتجنبون العارفين بالمشاكل وأسبابها , ولهذا تراهم في حالة عزلة وانكماش عن الآخرين , لفقدان القدرة على المواجهة الفعالة لهم. وبسبب ذلك يجنحون إلى الإنحرافات المتنوعة في التفاعل مع المواقف والمستجدات , ويحيطون أنفسهم بجمهرة من الناكرين المستفيدين من هذا الوضع الشاذ والمنافي لطبيعة الأمور. وعليه فأن المشاكل تتعقد وتتفاقم , العراقيل تتراكم , ولا يستيقظ الناكرون من خدرهم وعدم وعيهم للآليات المرضية , التي يستخدمونها لكي يتخندقوا في معاقل النكران , حتى تجدهم على شفا ويلات المصير. وفي سلوك النكران يكون الميل واضحا نحو استخدام آليات الإسقاط والتبرير , حيث يتم تبرئة النفس من المسئولية , ورميها على الآخر المتصور أو الموجود فعلا, وتبرير الأفعال السيئة بما يجعلها تبدو جميلة ومسوغة ولا بد منها. إن النكران هرب صريح من مواجهة المشاكل المؤلمة , والتي يصعب حلها , والسقوط في وديان الفنتازيا الذهنية , والإندحار في خنادق عاطفية آمنة وفقا لسلطة الخدعة والتضليل , التي تتسيد وتمنع الرؤية المعقولة الصائبة. ويشجع على التفاعل الكاذب مع المشاعر والعواطف البشرية , ويساهم في الإحتماء خلف الحواجز وفي المناطق الآمنة الحصينة. كما يشوّه المواقف ويحرفها بإنكاره لها , مما يساهم في فقدان السيطرة عليها , وتعزيز السلوكيات السلبية , التي تمنع التعامل الصحيح معها, ويؤكد المعتقدات اللامعقولة أو اللامنطقية , وما ينتج عنها من تفاعلات بين الناس. ولكي نتجاوز هذه العلة الفكرية والسلوكية , ونتفاعل بإيجابية وقدرة على الفهم الموضوعي , والتواصل المنطقي والعلمي , لا بد لنا أن نقر بوجود المشكلة , ونفتش عن مفرداتها في أعماقنا , وفي أنماط تفكيرنا وما نقوله ونكتبه , لكي نتعافى من أضرارها التي مزقت الوجود الصحيح , وحولت الحياة إلى إنحرافات متوالدة ومعقدة. وبعد الإقرار بوجود المشكلة ومواجهتها , لابد من التفاعل مع الآخرين من أجل أن نحقق حلا مقبولا لها, لأن الإنكار يدفع إلى التقوقع والخوف من الآخرين , والشك بهم ومواجهتهم بعنف ووحشية. إن نكران ما هو قائم , والتوهم بأن شيئا آخر غيره , هو القائم والمتفاعل في الحياة , يدفع إلى نتائج لا تتفق ومفردات الواقع المتحرك فيها. بل يحطمها ويصيب الأجيال المتلاحقة بالخدر والخداع والتضليل , ويحرمها من التعبير عن دورها الإيجابي. ولهذا فأن محصلة تفاعلات سلوك النكران , تكون أما مراوحة في ذات المكان , أو تأسنا وتدهورا مشينا ومدمرا. فهل سنعترف ونواجه ولا ننكر؟!!
د-صادق السامرائي |