تناقلت وسائل الإعلام ، في الأيام القليلة الماضية ، نبأ محاصرة مليشيات ليبية مباني وزارات مهمة في البلاد ، بهدف الضغط على الحكومة الليبية لإجبارها على استبعاد مسؤولي و موظفي نظام القذافي من شغل مناصب مهمة ، أو مسؤوليات إدارية على مستوىً عالٍ أو واطىء ، في النظام الجديد . و على الرغم من أن هذه المليشيات مؤلفة ، في الغالب ، من عناصر متطرفة ، و أنّ الفعل بحدّ ذاته أمر مرفوض ، بالنسبة لمن ينتظر قيام دولة مؤسسات محترمة من قبل الكلّ في ليبيا ، على أنقاض نظام القذافي الفوضوي ، لكنّ للقضية زاوية أخرى و بعداً آخر ، قد يتضمّنان بعض الوجاهة و شيئاً من التبرير المنطقي . فقد عانى أعضاء هذه المليشيات من ظلم و تعسف و قمع و تعذيب ، و انتهاك للحرمات الشخصية و الحقوق الإنسانية بأبسط تجلياتها ، على أيدي جلاوزة نظام القذافي ، طوال ما يزيد على الأربعين عاماً ، حُرِموا خلالها حتى من حقهم في التوظيف العادي في دوائر و مؤسسات الدولة ، لذلك فمن الصعب للغاية عليهم ، و هم يمتلكون السلاح و القوة و الصوت العالي ، أن يتحمّلوا عودة نفس الوجوه و الواجهات القذّافية ، للإمساك بتلابيب صنع القرار في الدولة الجديدة ، مهما كانت الذرائع المعلنة لتبرير هذه العودة . فإذا قيل إن هؤلاء العائدين يمتلكون التجربة و الخبرة و التخصص و الشهادة ، قيل إن هناك مئات الآلاف من " العائدين " أيضاً ، لكن من المنفى القسري أو الاختياري ، ممن يمتلكون أيضاً تخصصات و تجارب و شهادات و تخصصات عالية ، و ممن يمكن لهم إدارة المؤسسات وفق ما تعلّموه في أوطانهم الثانية من تجارب عملية و خبرات مكتسبة و متراكمة . و إذا قيل إن هؤلاء هربوا ، و تركوا الشعب يقارع جلّاده ، فالأولوية في شغل المناصب ، إذن ، لشعب الداخل ، لا للهاربين . قيل في الردّ عليه ، إن الهاربين لم يهربوا إلا لأنّ سكّين النظام قد وصلت إلى نحورهم ، و لو كانوا أصرّوا على البقاء و المواجهة ، فالنتيجة معروفة : الإعدام أو المقابر الجماعية الصحراوية المجهولة حتى الآن أو متاهات السجون التحت أرضية التي لم يتم اكتشاف معظمها حتى الساعة . شعب الداخل من حقّه أن تعطى له فرصته في شغل المناصب ، حسب مستوياته العلمية و تجاربه و تخصصاته ، كما ينبغي ذلك أيضاً لشعب الخارج ، لكن لا مبرّر منطقياً لإعادة وجوه وواجهات الأنظمة المقبورة إلى الواجهة ! يصدق هذا الأمر في العراق أيضاً . فالذي نلاحظه الآن هو عودة شاملة و ساحقة و ماحقة للبعثيين الصدّاميين إلى جميع واجهات و " خلفيات " الدولة ، وحدهم .. ووحدهم ، و إذا قيل إزاء ذلك إن شعب الخارج له حقٌّ أيضاً يا شعب الداخل ، قيل ، إن من جاؤوا من الخارج دأبوا على سرقة أموال الدولة و الهروب إلى حيث أتوا ! قد يكون الأمر صحيحاً بالنسبة إلى العديد ممن عادوا إلى العراق من " رجال " المعارضة السابقة البارزين ، لكنّه لا يمكن أن يكون مبرّراً مناسباً و مقبولاً للغزو البعثي الصدّامي الذي نشهده حالياً لكل مناصب و مؤسسات و واجهات الدولة . هذا ، إلا إذا كان يمكن لنا القول إن شعبنا العراقي العزيز كان منتمياً برُمّته -انتماءً حقيقياً لا شكلياً - لحزب البعث المقبور ! يا رجل ! لم يقتصر الأمر على المناصب . فقد " نهضم " أن يكون بعثيٌّ إبن بعثيٍّ معدوم مديراً لمؤسسة ثقافية كبرى ، تطبع الكتب و تقيم المعارض إلى آخره. لقربه من زعامة دينية ما ، فهل علينا أيضاً أن نأكل شيئاً آخر ، و نقتنع بأنه لم يكن هناك شعراء نظيفون في تاريخ العراق خلال العهد السابق ، إلا شعراء الزيتوني و أمهات المعارك و مناقب الريّس ، ليعودوا - وحدهم - إلى الصدارة الإعلامية و الإعلانية ! ماذا كانت جريمتا هادي العكايشي و فلاح عسكر اللتان قتلا على أيدي الثوار بسببهما إذن ؟ لقد تفشّى سرطان البعثيين الصدّاميين من جديد في الدولة و الإعلام و المؤسسات و كلّ شيء ، حتى الواسطة ، لم تعد ممكنة إلا من خلال بعثي . و في هذا الصدد يُذكر إنّ أحد أنجال أستاذنا الشهيد خضر فرَج خفي الجابري اضطر مؤخرا إلى " توسيط " بعثي من أقارب محافظ ذي قار لرفع عريضة أو طلب أو شيء من هذا القبيل إلى المحافظ ، الإسلامي ، الدعوتي ، المعارض السابق و الكاتب المكثار عن الماضي و الحاضر و المستقبل ! ما أدري و الله ؛ هل المطلوب من المكتوين بنار البعث المنحل و المنحط ، أن يشكّلوا مليشيات مسلّحة ضاغطة ، على غرار النموذج الليبي ، لإنهاء هذا العبث ، المتمثل بدخول البعث المنحل إلى المؤسسات و الدوائر و مراكز صنع القرار من الشبابيك ، بعد إخراج أميركا إياه من الأبواب ، و تسلّله مجدّداً إلى واجهة المشهد و القرار ، الإعلامي و السياسي و الفكري و الأدبي إلى آخره. بعد كلّ تلك المصائب التي تسبّب فيها للبلاد و العباد ؟
|