على الطريقة المكسيكية والكولومبية وغيرها من التجارب المشهورة في عالم جرائم المخدرات، أقدم تجار هذه المادة في محافظة ميسان الجنوبية على اغتيال القاضي المختص بقضايا المخدرات أحمد فيصل الأسبوع الماضي، في وسط مركز المحافظة، وأردوه قتيلا على الفور، بخمس عشرة رصاصة من سلاح رشاش، ثم هربوا إلى جهة مجهولة، حسب المصادر الرسمية في المحافظة. وإذا كان البعض يعتبر هذا الأمر تطورا خطيرا في طبيعة المواجهة بين السلطات القضائية وتجار المخدرات، فالحقيقة ليست كذلك، لأن مآلات الوضع السياسي السيئ، وطبيعة السلطات السياسية الممسكة بالمشهد، تُحتّم أن تتجه الأمور إلى هذا المنحى، وأن تأخذ المجتمع معها إلى هذا المنحدر الكارثي. فلم يعد أي شيء يبدو مستغربا في العراق، بعد أن اتجهت السياسة في التحول من كونها فعلا اجتماعيا تمارسه نخب حاكمة، إلى مجرد وسيلة بيد حفنة من الفاسدين والطائفيين، يسخرونها من أجل مصالحهم الشخصية والحزبية. وعليه لم يتوانوا عن الاستثمار في كل شيء من أجل اكتساب القوة المادية، فقد استثمروا في النوادي الليلية وبيوت الدعارة، ووفروا لها الغطاء القانوني والحماية، حتى إنها انتشرت بشكل مخيف في أحياء معروفة في العاصمة بغداد. كما ذهبوا إلى الاستثمار في مراكز التجميل والمساج، لأغراض غير أخلاقية وبعيدة عن أهدافها، وسهّلوا وصول بعض الجنسيات من جنوب شرق آسيا وأوكرانيا للعمل في هذا المجال، جذبا لأصحاب النفوس المريضة. وكان المدماك الرئيسي في كل ذلك هو الحصول على سلطة المال، غير آبهين بالأمراض الاجتماعية والصحية والنفسية الخطيرة التي تنتج عن هذه الممارسات. ولأن التوأمة بين السياسة والفساد هي الرابط المقدس الذي يجمع بين أطراف العملية السياسية في العراق، فإنهم لم يدعوا مجالا آخر دون الولوج إليه والاستثمار فيه. فكانت المخدرات هي المحطة الأخرى والحقل الأوسع استثمارا واستغلالا، خاصة في السنوات الأخيرة، لاعتبارات كثيرة منها، أولا أن مصدر التوريد معروف ولديهم فيه علاقات واسعة سياسية وأمنية وتجارية واجتماعية وهو إيران، ما يضمن ورود البضاعة دون تفتيش وتمحيص وتدقيق. ثانيا، أن الحدود التي تربط العراق بإيران تصل إلى أكثر من 1600 كم، وتمتد من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، ما يوفر مرونة كبيرة في الاختراق والتمويه، حسب طبيعة الظرف. ثالثا، دخول الرعايا الإيرانيين بأعداد كبيرة جدا خلال مراسم الزيارات الدينية، ما يوفر غطاء مناسبا لإدخال المخدرات إلى العراق، خاصة أن عمليات تفتيش المسافرين تكاد تنعدم في هذه المناسبات، بسبب الأعداد الكبيرة، وكذلك لأن الغرض من الزيارة ديني، فيكون حجة لعدم التفتيش. رابعا، وجود طلب واسع على هذه المادة في دول الجوار العراقي، ما يشجع على إدخالها بكميات كبيرة جدا لغرض التصدير. ولأن الاتجار بالمخدرات في كل دول العالم يتطلب وجود قوى نافذة في السلطة، تستطيع توفير غطاء الاستيراد والتسويق والتصدير والتوزيع، ولأن العراق بات دولة تحكمها الميليشيات والعصابات المسلحة، التي هي في أمس الحاجة إلى المال، لتسليح نفسها وشراء ذمم البعض لتمرير مخططاتها، فإن ازدهار سوق المخدرات بات حتميا في العراق، ولم يعد هذا البلد طريق عبور فقط، بل سوقا رائجة بفعل المعادلة الجديدة التي صنعها النظام السياسي الحالي، وهي نشوء طبقة طفيلية حازت الغنى المادي الفاحش بسبب الفساد وسرقة المال العام والابتزاز، وطبقة أخرى تعاني الفقر المدقع الذي يضغط عليها بشكل يومي، وقد يقود إلى اهتزاز القيم الاجتماعية لديها. وهنا أصبح الفاسدون الأغنياء مستهلكين للمخدرات بحكم الترف المادي المقبل بلا جهد، وبات الشباب العاطلون عن العمل موزعين ومروجين لها، بدافع الفقر المدقع، أملا في الحصول على مدخول جيد. وبذلك تغوّل سوق المخدرات وبات التضييق عليه يمس مصالح قوى نافذة في السلطة وفي المجتمع.
التوأمة بين السياسة والفساد هي الرابط المقدس الذي يجمع بين أطراف العملية السياسية في العراق، الذين لم يدعوا مجالا دون الولوج إليه والاستثمار فيه
إن تصفية قاض بهذه الطريقة الوحشية، في مدينة يحكمها العرف العشائري ويعرف بعضهم بعضا، فقط لأنه حاول تنفيذ القانون، يجب أن لا تشكل مفاجأة كبرى، على الرغم من أن الكثيرين استغربوها. فهنالك الكثيرون ممن هم في هذا المسلك تعرضوا للضغوط والتهديدات، فتجنبوها بطرق مختلفة، كي يحافظوا على سلامتهم. كما اتجهت بعض مراكز التحقيق في جرائم المخدرات، إلى تنزيل مستوى جريمة من يلقون القبض عليه كتاجر أو حائز إلى مستوى متعاطٍ، كي تكون عقوبته السجن البسيط عند سوقه إلى المحاكم المختصة. كل ذلك بسبب سطوة هذه العصابات الإجرامية المغطاة بأغطية سياسية، واستعدادها لتصفية كل من يحاول التصدي لها. وهو إيذان بتحول البلد إلى مركز للجريمة المنظمة، المرتبطة بقضايا الاتجار بالمخدرات وكل الممنوعات الأخرى. كما أنه لن يكون بعيدا عن نفوذ مافيات المخدرات العالمية قريبا جدا، لكن السؤال الأهم والأبرز هو هل من دور للحكومة في وضع حد لهذه الكارثة؟ إن السؤال عن دور الحكومة بات مفارقة كبرى، حسبما يراها الكثيرون، أو كما يعكسها الواقع اليومي على الأرض. فالعراق دولة مُصنّفة ضمن الدول الفاشلة والحكومة فيه لا تحكم. أما رئيس الوزراء الذي يقول ولا يفعل، بل فقط يسارع لحضور مجالس العزاء، كلما قُتل شخص ذو منصب، فقد صرّح عقب مقتل القاضي بـ(إن سلطة الدولة وسيادة القانون لن تقف ساكنه إزاء هذه الجرائم النكراء التي تهدد السلم والاستقرار، ولن تدخر القوات الأمنية بكل صنوفها جهدا في سبيل فرض كلمة القانون وتقديم المجرمين إلى العدالة). لكن من يُصدّق هذا الكلام؟ أليس هو الذي قال في التاسع والعشرين من نوفمبر/ تشرين الثاني، بأن من استهدفوا منزله بالطائرات المسيرة يعرفهم جيدا، لكنه لم يفعل أي شيء بحقهم حتى الساعة؟ ألم يعد ذوي المفقودين وجها لوجه بأنه سيعيد لهم أبناءهم، أو في أضعف الإيمان يعطيهم موقفا عنهم ولم يفعل؟ فكيف يريد من العراقيين أن يكون كلامه ووعوده يقينا يعتصمون به؟ إذا لم يستطع هو شخصيا أن يحمي نفسه من الميليشيات فكيف سيحمي الشعب منهم؟ لقد جرّدت الميليشيات والطبقة السياسية الفاسدة، كل السلطات من معانيها، وعليه لم يعد أمام المواطن البسيط سوى خيارين لا ثالث لهما. إما أن يستكين وينحني ويضع كل السلطات المخوّل بها من خلال وظيفته في خدمة هذه الحفنة الضالة، أو أن يواجه مصيره المحتوم قتلا في وسط الشارع. وبالتالي يصبح المجتمع كله محكوما بمعادلات ما قبل الحضارة والحداثة، لأن القاضي يُمسي غير قادر على حماية نفسه، وهو ينفّذ القانون، فكيف يذهب الناس إليه كي يقرر لهم حقوقهم؟ وكذلك عنصر الشرطة هو الآخر لا يستطيع حماية نفسه، فكيف يذهب إليه الناس للإبلاغ عن الذين يقومون بتهديد السلم والأمن المجتمعي؟ عندها تنتظم كل الفعاليات الوظيفية لأجهزة الدولة في خدمة هولاء على حساب المجتمع والدولة. واليوم نرى بشكل واضح ملامح هذه الصورة في المنافذ الحدودية، التي باتت عناصر القوات المسؤولة عن هذا القاطع، يسهّلون مرور شحنات المخدرات إلى داخل البلد. أخيرا يبقى السؤال الكبير مفتوحا كجرح غائر في النفوس، أين سلطة العمامة الدينية؟ كاتب عراقي
الدكتور مثنى عبدالله أستاذ في العلاقات الدولية |