جاه و بخت

 

قبل ثلاثين عاما اصطحبني والدي لحضور مجلس فاتحة. كان مضيفا من القصب تجمع فيه حشد من الرجال المعقّلين يتصدرهم رجل مهيوب بشاربين كثين. كانوا ينادونه بالمَحَفوظ أو الشيخ، وقد تميز عنهم بحسن مظهره ورتابة هندامه. فقد كان المَحَفوظ يلبس صاية وسترة نظيفتين وتعتلي أكتافه عباءة صفراء مذهبة (چاسبي)، على العكس تماما من رعيته الذين بدا عليهم العوز واضحا. الذي شد انتباهي وقتئذ أن الكلام كله كان لشيخ العشيرة وأن الجميع كانوا منصتين ومؤيدين لما يقول. وأن هذا الشيخ المتغطرس كان لا يناديهم بأسمائهم دون تصغير، فينادي على قاسم بقويسم، وحيدر حويدر، وعباس اعبيّس.. الخ. رجل لا يميزه عن قومه علم ولا شهادة ولا فضل ولا فضيلة، يا ترى ما الذي يجعلهم خانعين أمامه لهذا الحد؟! هكذا سألت والدي في طريق العودة، فأجابني بكلمتين على الماشي (لأن الشيخ صاحب جاه وبخت) وعندما سألته ماذا يعني جاه وبخت، قال (مِن تكبر تعرف). كبرتُ وعرفتُ الجاه والبخت ماذا يعنيان، ولكني الى الآن لم أعرف أسباب الجاه والبخت هذين! والى الآن لم أجد تفسيرا لخنوع الناس وخضوعهم لأصحاب الجاه والبخت هؤلاء. ولا أدري أي سلطةٍ تجعل الانسان ذليلاً لهذا الحد! فما السر يا ترى في أن يتبع المرء من يهينه ويمسح بكرامته الأرض؟! ولماذا يصطف ابناء العشيرة على شكل دائرة ليهزوا اكتافهم هازجين أمام السيد الفلاني والمسؤول الفلتاني الذي يصفهم بالمعدان والهمج؟! وما الذي يجبر شبابا بعمر الورد (يجرّون صلوات) عندما يوبخهم إمام الصلاة وينعتهم بالغباء؟! وكيف يرتضي الناس الوقوف كالقطيع بباب رجل دين يهينهم حاجبه بين الحين والآخر؟! هل نحن شعب ماسوشي نتلذذ حين يبصق علينا الآخرون؟ هل أدمنا الخضوع لسلطة الأب، المعلم، رجل الأمن والجلاد، ثم صرنا نمارس هذا الخضوع ونتلذذ به مع اصحاب الجاه والبخت ممن ليس لهم علينا سلطان؟! نعم هنالك من لا يشتري هؤلاء بشق تمرة، ولا يقيم وزنا لذوي الجاه والبخت المتغطرسين. ولكن ما الفائدة والسواد الأعظم منتشٍ بالذلة والهوان؟! وما السبيل وهناك من يذكي ماسوشيتنا ويغذيها في نفوسنا بدءا من البيت والمدرسة حتى الجامعة والمسجد؟! تساؤلاتٌ دوّنتها على ورقة كانت أمامي عندما كنت حاضرا في اجتماع الآباء والمعلمين قبل يومين. دونتها وانا استمع لسونيڤا مديرة المدرسة. كانت سونيڤا تتحدث عن علاقة المعلم بالتلميذ، وكيف ينبغي ان تكون، ولماذا يعمد المعلم الى التقرب من الطفل وكسب وده، وكيف يستميله ويصادقه حتى لو اضطر هذا المعلم لتسفيه نفسه من اجل كسر الحواجز بينهما. كانت تشرح لنا مدى أهمية شعور الطفل بالأمان مع الآخرين وكيف يبني ذلك شخصيته ويجعله انسانا محترما عزيزا لا ذليلا خائفا. تقول سونيڤا صاحبة أجمل ابتسامة في دول الشمال وربما الجنوب ايضا، تقول انها اضطرت يوما أن تدخل "كورس" لتعلم الرقص من أجل طفل اسمه ساندر. كان ساندر يشعر بالخوف داخل الصف، وكان يعاني من عقدة رهاب المجتمع. طفل مسكين انفصل أبواه مبكراً فصار مشتتاً بينهما. يقضي اسبوعاً في بيت أبيه واسبوعاً في بيت أمه التي تعاشر رجلاً آخر. تقول سونيڤا أن مهمتها كانت شاقة جداً مع ساندر. فكانت تجلس قربه وتتصرف معه كالطفلة العاشقة لزميلها. تغازله وتمازحه وتضحك معه، وكانت كل يوم تغني له وترقص. وعندما بدأ خوفه يتبدد شيئا فشيئا وأصبح طفلاً طبيعياً خالٍ من العقد، قللت من فصول العشق وصوره حتى صار كالآخرين. تقول الجميلة سونيڤا ان ساندر أصبح الآن طالباً في المرحلة الثانية من كلية الصيدلة، وأنه من ضمن اصدقائها على الفيسبوك، وتقول أيضاً انها تحبّه كثيراً وتصلي من أجله كل يوم.. محظوظ إسنيدر.