قراءة في كتاب خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء للسيد الشهيد محمد باقر الصدر رض / بقلم: عصام حميدان

 

 

 

 

 

 

مقدمة عامة:

لعل الحديث عن السيد الشهيد محمد باقر الصدر (قده), هو حديث أقرب ما يكون إلى روح المغامرة الفكرية منه إلى البحث العلمي والمعرفي, لأننا نكون بذلك نحاول الاقتراب من مركز الإشعاع دون امتلاكنا لأدوات تقينا من شدة الإشعاع, مما يجعلنا عرضة لمخاطر وتحديات جمة..

فالسيد الشهيد هو رائد الفكر الإسلامي المعاصر, وألمع شخصيات عرفها التاريخ الحديث, ولا غرابة في إطلاق الكثيرين ونحن منهم عبارة مدرسة الشهيد الصدر(قده), فالسيد حمل الى العالم والعالم الإسلامي تحديداً مشروعاً فكرياً نهضويا تمتلك خصائص الأصالة في الطرح, والعمق في التحليل, والشمولية في التركيب.

وأما الكتاب الذي نحاول عرضه وقراءته, فهو كتاب (خلافة الإنسان وشهادة الأنبياء) الذي يمثل بحق الأساس النظري للفكر السياسي الإسلامي المعاصر, لما جعل للمفردات السياسية والدستورية التي ترسم حدود العلاقة بين الفقيه والأمة في النظام السياسي الإسلامي, مرجعا نظريا عقليا ومقبولاً عقلائيا, مدعوم في ذلك بنصوص مقدسة من القرآن الكريم والسنة الشريفة المطهرة.

ولعل القارئ والباحث في كتب السيد الشهيد, وبخاصة كتابه (الإسلام يقود الحياة) يحس وجود آفاق رحبة لبناء نظرية سياسية إسلامية واضحة المعالم, ذلك لأن الإشارات التي أطلقها السيد الشهيد في هذا الكتاب تمثل خطوط عريضة في بحث أولي حول الأسس الفلسفية لمسألة السلطة في الإسلام, وهي تحتاج إلى إمعان نظر, واستخراج الخطوط التفصيلية, حتى نستطيع بناء منظومة معرفية متكاملة للفكر الإسلامي.. والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.

الفصل الأول

الخلافة العامة للإنسان.. منطلقات ومسارات

إن خط الخلافة العامة للانسان ثابت بنص القران الكريم, الذي يمثل الاساس الاسلامي لهذا الخط في مفهومه وتمظهراته, ومنها قوله تعالى: {هو الذي جعلكم خلائف في الارض}(1) وقوله تعالى: {انا عرضنا الامانة على السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها واشفقن منها وحملها الأنسان انة كان ظلوما جهولا}(2).

وبعد بيان الاساس الاسلامي لخط الخلافه العامه للانسان, انطلق السيد الشهيد في استكشاف منطلقات هذا الخط ومرتكزاته الأساسية (المبحث الأول) وكذا مساراته انطلاقاً من الخليفة الأول آدم (عليه السلام) الى يومنا هذا (المبحث الثاني).

المبحث الأول

منطلقات خط الخلافة العامة للإنسان وأبعاده

لا ينفصل خط الخلافة العامة للإنسان عن خلفياته العقائدية والفلسفية, وهو ما يجعل هذا الخط يتجذر في بنية التصور الإسلامي بتجذر المرتكزات العقائدية في فطرة ووعي المسلمين, لذلك يعتبر هذا الشق من البحث بمثابة الإجابة عن سؤال شرعية هذا الخط ومشروعيتة في الفكر الإسلامي (الفرع الأول) في حين يعتبر الحديث عن أبعاد خط الخلافة العامة للإنسان حديث عن فاعلية هذا الخط في تغيير المحتوى الداخلي للإنسان سواء ما يتعلق بالعمق الفكري أو المناخ النفسي (الفرع الثاني).

الفرع الأول: منطلقات خط الخلافة العامة للإنسان:

من موقع الخلافة العامة للإنسان, أخذ الإنسان حيز القيادة في هذا الكون, واستحق السجود من طرف الملائكة، وترتبت له من جراء ذلك حقوق والتزامات.. لكن قبل ذلك يتوقف السيد عند أهم منطلقات هذا الخط من الناحية الفلسفية والعقائدية وهي كالتالي:

1) الإستخلاف الإنساني نوعي لا شخصي:

فالنوع الإنساني هو المستخلف على الأرض، وليس شخص آدم (ع), ويدل على ذلك أمران, أولهما الآيات القرآنية السابقة الذكر التي تخاطب المجموع البشري بعنوانية (الخلائف) وثانيهما دلالة تخوف الملائكة على الخصوصية التكوينية لآدم والتي تمثل خصوصية نوع بأكمله وهو النوع الإنساني, وتخوفهم من جعل أمر الأرض بيد خليفة تتنازعه نوازع الخير والشر, مما يهدد مستقبل الأرض ويجعله غير مطمئن..

غير أن الله سبحانه وتعالى ضمن سلامة الخلافة العامة للإنسان على الأرض من خلال دعامتين وهما: العقل الإرادي للإنسان ووجود خط للشهادة يراقب ويقوم المسيرة من الإنحراف..

2) الخلافة في القرآن أساس الحكم:

وهنا يوجد تمييز دقيق بين الخلافة العامة وبين الحكم, فالمفهوم الأول أعم من الثاني, فيتفرع بذلك الحكم عن الخلافة والإستخلاف, إذ يقول تعالى: {يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق}(3) فيتبين من خلال ذلك أن (الخلافة في القرآن أساس الحكم وكان الحكم بين الناس متفرعاً على جعل الخلافة كما يلاحظ في المقطع الرابع من المقاطع القرآنية المرتبطة بالخلافة)(4) وهو الآية التي أشرنا إليها.

3) مفهوم الإسلام الأساسي عن الخلافة هو الإنابة عن الله في الحكم وقيادة الكون:

وكذا إعماره اجتماعياً وطبيعياً وبناء على ذلك فإن النظرية الإسلامية في الحكم ترتكز في جزء كبير منها على حكم الناس لأنفسهم, وشرعية ممارسة الجماعة البشرية حكم نفسها بوصفها خليفة عن الله.. غير ان ذلك لا يعني أن النظرية الإسلامية في الحكم تتقوم المبنائية الديمقراطية, وبيان ذلك سيتضح من خلال فهم منطلقات خط الشهادة, الذي يرافق على امتداد المسيرة الإستخلافية هذا الخط, لأجل تقويم وتصحيح الإختيارات البشرية.

الفرع الثاني: أبعاد خط الخلافة العامة للإنسان

لقد استعرض السيد الشهيد في هذا العنصر دلالات وأبعاد خط الخلافة العامة للإنسان, وهو عنصر أساسي في بناء منظومة التصور الإسلامي, ومن ثم الإرتكاز عليها في صياغة الأسس الفلسفية لحركة الإسلام في الحياة على كافة الأصعدة..

وفيما يلي الدلالات العامة لخط الخلافة العامة للإنسان:

1) انتماء الجماعة البشرية إلى محور واحد:

وذلك المحور هو الطرف المركزي في نظرية الإستخلاف وهو (المستخلف) أي الله سبحانه وتعالى, فيتحول هذا الإنتماء الى بديل (عن كل الإنتماءات الأخرى والإيمان بسيد واحد ومالك للكون وكل ما فيه وهذا هو التوحيد الخالص الذي قام على أساسه الإسلام)(5).

2) إقامة العلاقات الإجتماعية على أساس العبودية لله:

إن مفهوم العبودية لله تعالى يمثل جوهر التوحيد الخالص، ويترتب عنه توجيه الإصطفافات الإجتماعية في اتجاه واحد, وهو اتجاه المعبود, فيتحرر بذلك أفراد المجتمع من ولاءات لأسماء لا تستحق الولاء والعبادة, فيتحقق بذلك من خلال خط الخلافة العامة للإنسان (تحرير الإنسان من عبودية الأسماء التي تمثل ألوان الإستغلال والجهل والطاغوت)(6).

3) تجسيد روح الأخوة العامة في كل العلاقات الإجتماعية:

إن وحدة المعبود, تجعل الحركة الإنسانية حركة في خط المساواة, فالجميع عباد الله, ولا تمايز بين أفراد المجتمع, ولا بين المجتمعات بالنسبة الى المحور (المستخلف) إلا بمعيار قيمي أساس وهو (التقوى), وبناء على ذلك (فمن الطبيعي أن يكونوا أخوة متكافئين في الكرامة الإنسانية والحقوق كأسنان المشط على ما عبر الرسول الأعظم)(7), وكذا قول الله سبحانه وتعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم...}(8), وقوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}(9).

4) الخلافة استئمان:

وقد عبرت عن ذلك الآية الكريمة: {إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا}(10) ومن لوازم قبول حمل أعباء الأمانة تحمل المسؤولية, لأن الله تعالى يقول: {إن العهد كان مسؤولا}(11).

ويتوقف السيد الشهيد عند هذه الدلالة, لكونها ترتب آثاراً فعلية على مستوى مسار خط الخلافة العامة للإنسان, وتتلخص في مسألتين رئيسيتين وهما:

الأولى: الإرتباط والتقييد بالتوجيهات الإلهية وتطبيقها:

ويعتبر هذا العنصر المائز الجوهري بين النظام السياسي الإسلامي والنظام الديمقراطي الغربي, لكون هذا الأخير يقوم على أساس جعل الشعب مصدر السلطة والسيادة بشكل مطلق ومعزول عن الله سبحانه وتعالى, في حين يقوم النظام السياسي الإسلامي, على أساس الإلتزام بمبدأ السيادة التشريعية لله تعالى بمقتضى نظرية الإستخلاف الإلهي للإنسان, وكذا وفقاً لما دلت عليه آيات كثيرة من القرآن الكريم كقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}(12) وقوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}(12*) وأيضاً: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون}(13).

الثانية: الإنسان كائن حر:

إذا كانت مسؤولية الإنسان أمام الله في الإلتزام بتوجيهاته عملياً سمة أساسية في التصور الإسلامي, غير أنها لا تصادم مفهوم الحرية وحق الإنسان في الإختيار وصناعة القرار, ولأجل ذلك فإمكانية الإصلاح أو الإفساد في الأرض متعلقة بالشرط الإرادي للإنسان, وهذا ما أستوحاه السيد الشهيد وأستقربهُ من الآيات الكريمات التي نقلت لنا حوار الله مع ملائكته حول القرار الإلهي باستخلاف النوع الإنساني على الأرض, وقد بين الله تعالى لهم: (أن هذا الكائن الحر الذي اجتباه للخلافة قابل للتعليم والتنمية الربانية وأن الله تعالى قد وضع له قانون تكامه من خلال خط آخر يجب أن يسير الى جانب خط الخلافة وهو خط الشهادة والذي يمثل القيادة الربانية والتوجيه الرباني على الأرض)(14) ولذلك قال تعالى: {قلنا اهبطوا منها جميعاً فإما يأتينّكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولاهم يحزنون}(15).

المبحث الثاني

مسارات خط الخلافة العامة للإنسان

مما لاشك أن كل حركة واعية ومسيرة حضارية هي بحاجة الى تحديد غاية وهدف يشكل بلوغه الدافع في الحركة, ويمكن من إعطاء زخم في الإندفاع الثوري، ولذلك كانت كل الإتجاهات الفكرية ترسم لنفسها أهدافاً وغايات, غير انها رسمت في الغالب أهدافاً مادية واقعية, سواء كانت بلوغ المجتمع الشيوعي وتحرير وسائل الإنتاج من علاقات التوزيع الطبقية, أو كان الهدف هو بلوغ المجتمع الليبرالي ذو الإقتصاد الرأسمالي.. وفي مقابل ذلك نجد التصور الإسلامي حدد لنفسه هدفاً غير منظور وغير مادي وهو الله سبحانه وتعالى ونيل رضاه ونعيمه الذي وعدنا به..

فمن هنا كانت حركة التاريخ ضمن التصورات الغربية حركة سائرة في اتجاه نقطة محددة, تحتم عليه التوقف عندها, وبالتالي انحسار الحركة الإنسانية وضمورها, في حين بقيت النظرية الإسلامية محكومة بمبدأ الحركة الدائمة والدائبة نحو بلوغ هدف أسمى من الأهداف المادية المنظورة, لتبقى حركة التاريخ في منحى تصاعدي مستمر لا تتوقف إلا بفناء النوع الإنساني ذاته.. ولعل هذا هو السبب الذي يجعلنا نرفض طروحات نهاية التاريخ سواء وفقاً للمنظور الماركسي (المجتمع الشيوعي) أو وفقاً للمنظور الليبرالي الرأسمالي (فرانسيس فوكوياما نموذجاً وقبل ذلك هيغل وأطروحته حول نهاية التاريخ).

إن التصور الإسلامي يتخذ من القيم المطلقة هدفاً وغاية لحركة المسيرة الإجتماعية (ولما كانت هذه القيم على المستوى الإلهي مطلقة ولاحد لها وكان الإنسان الخليفة كائناً محدوداً فمن الطبيعي أن تتجسد عملية تحقيق تلك القيم الإنسانية إنسانياً في حركة مستمرة نحو المطلق وسير حثيث الى الله) (16) وقد قال الله سبحانه وتعالى: {يأيها الإنسان إنك كادح الى ربّك كدحا فملاقيه} (17).

إن مفهوم التنمية البشرية واستثمار الموارد الإنسانية, باتت من المفاهيم الأساسية والضاغطة على واقع الإنسانية ومستقبلها, وقد أثبتت المعطيات الواقعية والميدانية تقدم بلدان تفتقر الى الكثير من مقومات القوة وخصوصاً الثروة المادية والطبيعية لكونها تمتلك العنصر البشري الفاعل والمؤثر في تحريك عجلة التنمية, كما أثبتت المعطيات أيضاً.. تختلف بلدان تستهلك كماً هائلاً من الثروات الطبيعية غير أنها كانت تفتقر الى الطاقة البشرية أو أنها كانت خامدة بسبب تظافر عوامل مختلفة لإفراز ذلك. ويشير السيد الشهيد إلى إن القيم العليا للحركة الإنسانية من المنظور الإسلامي هي نفس صفات الله (فصفات الله تعالى وأخلاقه من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والإنتقام من الجبارين والجور الذي لا حد له هي مؤشرات للسلوك في مجتمع الخلافة وأهداف للإنسان الخليفة) (18) وبناءاً على ما تقدم, فالجماعة المسلمة تتحمل مسؤولية كبرى في تأمين الشروط الموضوعية للحركة الإنسانية الساعية الى تجسيد الأهداف المطلقة الربانية, والتي تمثل خصوصية النسيج الإجتماعي الإسلامي والتصور الإسلامي لمسألة التنمية..

 

الفصل الثاني

خط الشهادة.. المرتكزات والسارات

إن الله سبحانه وتعال عندما أوجد خط الخلافة العامة للإنسان, لم يترك الإنسان يتصرف بمطلق الحرية, أو أنه لم يُجز له صياغة أساس التشريع, وذلك لأنه أراد حماية مسيرة الخلافة العامة للإنسان من الزيغ والإنحراف وتوجيهها نحو أهداف الخلافة الرشيدة.

وسنعمل في هذا الفصل على ذكر المرتكزات العامة لخط الشهادة (الفرع الأول) ثم بيان مسارات الخلافة الإنسانية في تفاعلها مع خط الشهادة, منذ الخليفة الأول آدم (عليه السلام) الى المرحلة الراهنة (الفرع الثاني).

الفرع الأول: المرتكزات العامة لخط الشهادة

لقد صنف القرآن الكريم الشهداء الى ثلاثة أصناف بناء على الآية الكريمة التي يقول فيها الله سبحانه وتعالى: {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للّذين هادوا والربانيون والأحبار بما استخفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء}(19).

وقد استوحى السيد الشهيد على ضوء هذه الآية الكريمة أن عناصر خط الشهادة هي:

1) الأنبياء.

2) الأمة باعتبارها الامتداد الرباني لخط الشهادة على مستوى الدور لكن من دون نبوة.

3) المرجعية باعتبارها الإمتداد الرشيد للنبي والإمام في خط الشهادة من غير عصمة.

هذا بالنسبة لعناصر خط الشهادة, على امتداد حركة الزمن والتاريخ, أما المرتكزات العامة لهذا الخط فقد لخصها السيد الشهيدفي ثلاثة مرتكزات تحدد حجم ومساحة الدور الرسالي لعناصر الشهادة وهي:

أولاً: استيعاب الرسالة السماوية والحفاظ عليها

ذلك لأن الله سبحانه وتعالى لما أراد حماية مسيرة الإستخلاف من الإنحراف, أعطى للإنسان محتوى رسالياً, يستهدي بهداه ويستضييء بنوره,فكان لابد للرسول أو النبي الذي هو حلقة وصل بين الله والإنسان أن يكون مستوعباً لكل الخطوط العامة للرسالة وللخطوط التفصيلية التي أراده الله أن يعلمها, لتكون حاضرة في وعي النبي ومن ثم في نهجه وسلوكه, فاحتاج بذلك لأداء هذا الدور الى العصمة التي هي من لطف الله والتي تجعل من النبي (مجسداً للرسالة بقيمها وأحكامها في كل سلوكه وأفكاره ومشاعره وغير ممارس لا بعمد ولابجهالة أو خطأ أي ممارسة جاهلية ولابد أن تكون هذه النظافة المطلقة متوفرة حتى قبل تسلمه للنبوة والإمامة لأن النبوة والإمامة عهد رباني الى الشخص)(20), ومن هنا كان اشتراك النبي والإمام في العصمة وإن كان الإمام لا يرتكز على الإتصال المباشر مع الوحي في دائرة النبوة.. ويمارس المرجع الرشيد نفس دور النبي والإمام في استيعاب الرسالة السماوية والحفاظ عليها, غير أنه ينفصل عنهما في مستوى العصمة, فاستيعابه لرسالة هو تعبير معين عن فهم محدد للنصوص, واجتهاد قائم على قواعد خاصة بالإستنباط.. كما أن المرجعية الرشيدة لا تنطلق في أداء دورها من التعيين الإلهي, وإنما تنتقل لأداء دورها بناء على قرار من الأمة, ولا يعني ذلك ان المرجع الرشيد يتوصل الى ملكة الإجتهاد ومقام المرجعية باختيار الأمة, وانما حديثنا ينحصر في مستوى الدور القيادي للمجتمع الإسلامي, والحفاظ على الهوية الحضارية للجماهير ومطالبها في الحرية والعدالة.. وهو ما يعبر عنه السيد الشهيد بقوله: (ومن هنا كانت المرجعية كخط قراراً إلهياً والمرجعية كتجسيد في فرد معين قراراً من الأمة)(21) كما أن الأمة هي التي تتأكد من انطباق الشروط الشرعية في المرجعية, وتنقاد اليها من خلال التقليد والأخذ عنها الأحكام الشرعية والتكليفية, وهذا ما يجعل المرجعية الرشيدة في عصر غيبة المعصوم امتداداً نوعياً في مسيرة خط الشهادة. (فالنبي والإمام معينان من الله تعالى تعييناً شخصياً وأما المرجع فهو معين تعييناً نوعياً أي أن الإسلام حدد الشروط العامة للمرجع وترك أمر التعيين والتأكد من انطباق الشروط الى الأمة نفسها) (22).

ثانياً: الإشراف على ممارسة الإنسان لدوره في الخلافة ومسؤولية إعطاء التوجيه بالقدر الذي يتصل بالرسالة وأحكامها ومفاهيمها..

ذلك أن دور الشهيد هو الرقابة على حركة الأمة في ممارستها لمهمة الإستخلاف, ولا يعتبر توجيه الشهيد للإمة حقاً مطلقاً, وصلاحية غير محدودة ومنضبطة بضوابط دقيقة, وإنما يتحدد دور الشهيد بالسقف الشرعي لعملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقاً للآليات والحدود التي رسمتها الشرعية الإسلامية.. أما ما يرتبط بدور المرجع في الخلافة العامة للإنسان, فذلك يتحدد بمستوى الإمتداد اشعبي والثفة الجماهيرية في قيادة المرجع, وقدرته على تأطير النضال الإجتماعي والسياسي, ودفعه نحو تحقيق أهدافه وغاياته.

ثالثاً: التدخل لمقاومة الإنحراف واتخاذ كل التدابير الممكنة من أجل سلامة المسيرة

ذلك لأن الشهادة هي الارتكاز في مقام التوجيه والعمل على مرجعية فكرية تشريعية, بحيث اذا ما انحرفت الأمة في اداء دور الخلافة العامة عن الرسالة الالهية, ومقتضيات الخلافة, فان واجب الشهيد التدخل بمختلف الوسائل لإعادة الأمة الى الطريق الصحيح والإستقامة في خط الرسالة.. ولذلك فإننا قد نشهد توسعاً في حجم ودور الشهيد خلال مرحلة تاريخية معينة, بحيث تصل به الى القيادة السياسية والاجتماعية لحركة الثورة أو الدولة. كما أننا قد نشهد اقتصار الشهيد على دور الرقابة من خارج دائرة السلطة, وذلك تبعاً لتقدير الشهيد لحجم التحديات الذاتية والموضوعية التي تواجه حركية الأسلام في الامة, وموازنة الاضرار الناجمة عن كل قرارٍ أو سلوكٍ ينتهجه الشهيد في أداء دوره.. ولذلك نلاحظ على امتداد الزمن والتاريخ اشتباكاً بين خطي الخلافة والشهادة, وهذا سيتعرض له السيد الشهيد في العنصر التالي والأخير, أي مسارات خط الشهادة على الأمة في أدائها لدور الخلافة العامة.

الفرع الثاني: مسارات خط الشهادة على الاستخلاف الإنساني

لقد تتبع السيد الشهيد مسار خط الشهادة في اشتباكه مع خط الخلافة على امتداد التجربة التاريخية للنوع الإنساني على الأرض, وقد استطاع ان يرصد خمس مراحل لمسارات هذه التجربة وهي كالتالي:

مرحلة الحضانة والتمهيد لدور الخلافة:

كما هي طبيعة الإنسان في تدرجه نحو الكمال, وتشكل وعيه في مخاض التجربة ومعاناة الواقع, فان آدم (عليه السلام) الخليفة الأول على الأرض, لكونه لايمتلك الجو الذي يحتضن الإنسان في طفولته, لانعدام الأبوة والأمومة, والإندماج ضمن دائرة العلاقات الاجتماعية, فان الله سبحانه وتعالى اجرى في آدم نفس السُنة الطبيعية الدارية على بني آدم, فهيئ له التجربة الأولى, التي من خلالها انفتح وعي آدم على التحديات الداخلية فيما هي حالة الانجذاب والاغراء النفسي والتحديات الخارجية فيما هي الأطراف الاستكبارية والشيطانية التي تحيط بالتجربة الإيمانية للنوع الإنساني.. فمثلت الجنة دار الحضانة الاستثنائية التي وجد (فيها التنمية والتوعية التي تؤهله لممارسة دور الخلافة على الأرض من ناحية فهم الحياة ومشاكلها المادية ومن ناحية مسؤولياتها الخليقة والروحية) (23).

مرحلة الفطرة والوحدة من الخلافة:

ان وحدة النوع الإنساني ووحدة الإستخلاف من القضايا الوجدانية المركوزة في الفطرة الإنسانية, كما ان قوة الدفع الأولى التي أعطاها آدم (عليه السلام) للتجربة البشرية, لاشك أنها ساهمت في صياغة الوعي الإنساني على قاعدة الإستقامة على المرتكزات الفكرية في السلوك, والتزام الوحدة في العلاقات الإجتماعية, ليتأسس بذلك مفهوم الامة, بكل ما يعنيه هذا المفهوم من معنى, اذ قال الله سبحانه وتعالى: {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} (24) وقوله تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه} (25).

مرحلة الإختلاف والتشتت:

وقد أشارت الآيات السابقة الى ذلك, اذ انحرفت المسيرة الإنسانية عن خط الفطرة والوحدة, واحتاجت الى من يرشدها الى الصراط المستقيم، وتقويم حركتها في نطاق الإستخلاف.. وهذا ما جعل الله سبحانه وتعالى يرسل عناص خط الشهادة من أنبياء ورسل وأئمة وعلماء الشريعة الإسلامية..

مرحلة العودة الى مجتمع التوحيد:

لقد ساهم جو الصراع والإستغلال الإجتماعي والتسلط السياسي في تحريك خطوط المقاومة والثورة في الأمة, غير ان هذه الخطوط تميزت معظمها بالاستناد الى خلفيات غير رسالية, كالخلفية الطبقية او القومية والعرقية وما الى ذلك, فما يتحول أحد هذه الخطوط من موقع الثورة الى موقع الدولة, إلا يعيد نفس التجربة السابقة من احتكار للقوة وتسلط اجتماعي وسياسي. غير ان حركة الشهداء من أنبياء ورسل انطلقت في هذه الأجواء من دوافع رساليه السامية, في سبيل إعادة التجربة الإنسانية الى مقومات الوحدة والانسجام ومنطلقها الاساسي العبودية لله تعالى المسيطرة على الفطرة الإنسانية منذ تشكلها الأول. وقد مارس الأنبياء والأئمة دور الشهادة وكذا الخلافة العامة, لأن السيد الشهيد يجعل من التعيين الإلهي والعصمة محدداً جوهرياً لأندماج خطي الخلافة والشهادة في من تتوفر فيه هذه الخصائص والمحددات.. غير أن النبي يبقي ملزماً بانتهاج الشورى في ما يتعلق بممارسة دور القيادة في ما بعد الخلافة, وهنا يتبين لنا أن رأي السيد الشهيد مخالف لمن يقول بأن أمر الله النبي باتباع الشورى هو على نحو الإستحباب والتعليم, ولايلزم النبي باتباع نتائج الشورى لدلالة قوله تعالى: {فإذا عزمت فتوكل على الله}(26) اذ يقول السيد الشهيد: (وقد أوجب الله سبحانه وتعالى على النبي - مع أنه القائد المعصوم - أن يشاور الجماعة, ويشعرهم بمسؤوليتهم في الخلافة من خلال التشاور)(27), كما ان الشورى الملزمة للنبي – على رأي السيد الشهيد - تدل على اصالة الإستخلاف الإلهي للنوع الإنساني, فان دلالة البيعة للنبي لا تقل عن الأولى في ذلك, لأن البيعة هي شكل من أشكال التعاقد والإلتزام, وتعني تفويض السلطة من المجتمع الى القيادة, على ان يترتب على هذه البيعة حقوق والتزامات, فيما هي الطاعة والإنضباط للقيادة من جهة, والتزام القيادة خط العدل والشورى في ممارسة الدور القيادي لذلك يقول السيد الشهيد: (البيعة للقائد المعصوم واجبة لا يمكن التخلف عنها شرعاً ولكن الإسلام أصر عليها واتخذها أسلوباً من التعاقد بين القائد والأمة لكي يركز نفسياً ونظرياً مفهوم الخلافة العامة للأمة)(28).

مرحلة الوصاية على الثورة:

وقد مثل هذه المرحلة الأئمة والأوصياء, الذين هم ظاهرة ربانية ثابتة على مر التاريخ, وقد اتخذت شكلين أساسين وهما:

شكل النبوة التابعة لرسالة النبي القائد.

شكل الوصاية بدون نبوة:

وقد اتخذ هذا الشكل النبي (ص) بأمر من الله تعالى, فعين أوصياء الإثني عشر من الأئمة أهل البيت (عليهم السلام) الذين مارسوا نفس دور النبي الرسول من دون نبوة جديدة, أو انبثاق لرسالة جديدة, وقد استطاعوا بناء على مقومات شخصيتهم المتميزة والعظيمة, وانطلاقاً من دعامة العصمة التي رافقت حركتهم ومسيرتهم في الحياة, من تحقيق هدف المحافظة على خط الشهادة, ودعوة الناس الى الإستقامة في طريق الرسالة.

مرحلة المرجعية الرشيدة:

وهي المرحلة الراهنة من تاريخية التجربة البشرية على الأرض, وتعتبر المرجعية الرشيدة الإمتداد الرباني للنبوة والإمامة على خط الشهادة.

ومن هذا المطلق, تقع أعباء ومسؤوليات على المرجع الرشيد تفرض عليه أن:

أولاً: أن يحافظ المرجع على الشريعة والرسالة, ويرد عنها كيد الكائدين وشبهات الكافرين والعاشقين (29).

ثانياً: أن يكون مشرفا ورقيباً على الأمة.. وبمقتضى ذلك ينبغي أن يعيد الأمة الى صراطها المستقيم (اذا انحرفت عن طريقها الصحيح اسلامياً وتزعزعت المبادئ العامة لخلافة الإنسان على الأرض) (30).

ثالثاً: أن يكون المرجع في بيان أحكام الإسلام ومفاهيمه مجتهداً ويكون اجتهاده هو المقياس الموضوعي للأمة من الناحية الإسلامية (..) باعتباره الممثل الأعلى للإديولوجية الإسلامية) (31).

وهكذا يكون السيد الشهيد, قد رسم لنا في وعينا مساراً واضحاً لخطي الخلافة والشهادة فأمكن بذلك, وعلى ضوء ما تقدم في هذا البحث, صياغة الملامح الأولية للمشروع السياسي الإسلامي في عصر الغيبة الكبرى, بناء على أطروحة متميزة وأصيلة, تجمع في طياتها بين حركة الأمة واختياراتها, وبين حركة المرجعية الرشيدة وشهادتها على الواقع والأمة, وستعمل على ذكر الخطوط العريضة لذلك في شكل نقاط اساسية كالتالي:

1 - خط الخلافة ينتقل في عصر الغيبة الكبرى الى الأمة, باعتبارها صاحبة الخلافة العامة.

2 - اذا كانت الأمة مقصية عن هذا الحق فيتولى المرجع رعاية هذا الحق في الحدود الممكنة, ويكون مسؤولاً عن تربية هذا القاصر وقيادة الأمة لأجتياز هذا القصور وتسلم حقها في الخلافة (32) ومن خلال ذلك يتبين ان السيد الشهيد يتبنى اتجاه الجعل العقلي لولاية الفقيه على الأمة, والذي يجعل من الضرورة في حفظ النظام العام أساساً لحدود هذه الولاية وامتداداتها.

3 - اذا حررت الأمة نفسها من سيطرة الطاغوت, فان خط الخلافة ينتقل اليها فهي التي تمارس القيادة السياسية والإجتماعية بتطبيق أحكام الله على اساس الركائز المتقدمة للإستخلاف الرباني(33).

4 - تمارس الأمة دورها في الخلافة العامة, وفقاً لخط الشورى الذي أكدت عليه آيات الشورى(34) وينتج عن ذلك الأخذ بمبدأ الشورى وبرأي الأكثرية عند الخلافة(35) وليس مبدأ الأكثرية أداة لأختيار الأسس التشريعية, وانما هي مرجح في تحديد آليات اتخاذ القرار وتنفيذه.

5 - تتوزع في عصر الغيبة مسؤوليات خطي الخلافة والشهادة بين المرجع والأمة, بين الإجتهاد الشرعي والشورى الزمنية(36) فالنظام السياسي الإسلامي, لا يؤمن بالولاية المطلقة للفقيه بعيد عن حركة الأمة, كما لا يؤمن بالشورى المطلقة في حركة الأمة بمعزل عن ولاية الفقيه, لترافق خطي الخلافة والشهادة وتلازمهما في مسار التجربة الإنسانية واستجابة للإرادة الإلهية.

6 - لا ينبغي تجميع خطي الخلافة والشهادة في المرجع, لأن في ذلك إنتاج للمشروع المعصومي, مع غياب عمقي هذا المشروع وهو التعيين الشخصي والعصمة, كما لا ينبغي فصل خطي الخلافة والشهادة, وجعل الأمة تمارس الخلافة دون شهادة المرجع, لأن في ذلك إنتاج للمشروع الديمقراطي الغربي الذي يرفضه الإسلام, لكونه غير مضمون وقد ينفتح من خلال اختيارات الأمة وسلطتها المطلقة على مساحات الكفر والإنحراف الذي لا يرضاه الله تعالى.. وللمرجع الحق في ممارسة دور الخلافة لا بصفته مرجعاً ولكن بصفته جزءاً من الأمة, وبقدر ماله من وجود في الأمة وامتداد اجتماعي وسياسي في صفوفها(37).

____________

1 - فاطر/ 39.

2 - الأحزاب / 72.

3 - ص / 26.

4 - الصدر: محمد باقر / الإسلام يقود الحياة: ط 1990م - 1410هـ /دار التعارف / ص: 124.

5 - المصدر نفسه / ص: 124.

6 - المصدر نفسه / ص: 125.

7 - المصدر نفسه / ص: 125.

8 - الحجرات / 13.

9 - النجم / 39.

10 - الأحزاب / 72.

11 - الإسراء / 34.

12 - المائدة / 44.

12 - المائدة 47.

13 - المائدة / 45.

14 - الإسلام يقود الحياة (مصدر سابق) / ص: 127.

15 - البقرة / 38.

16 - الإسلام يقود الحياة (مصدر سابق) / ص: 129.

17 - الانشقاق / 7.

18 - الإسلام يقود الحياة (مصدر سابق) / ص: 129.

19 - المائدة / 44.

20 - الإسلام يقود الحياة (مصدر سابق) / ص: 134.

21 - الإسلام يقود الحياة (مصدر سابق) / ص: 133.

22 - الإسلام يقود الحياة (مصدر سابق) / ص: 133.

23 - الإسلام يقود الحياة (مصدر سابق) / ص: 137.

24 - يونس / 19.

25 - البقرة / 213.

26 - آل عمران / 159.

27 - الإسلام يقود الحياة (مصدر سابق) / ص: 145.

28 - الإسلام يقود الحياة (مصدر سابق) / ص: 146.

29 - الإسلام يقود الحياة (مصدر سابق) / ص: 152.

30 - الإسلام يقود الحياة (مصدر سابق) / ص: 152.

31 - الإسلام يقود الحياة (مصدر سابق) / ص: 152.

32 - الإسلام يقود الحياة (مصدر سابق) / ص: 152 بتصرف.

33 - الإسلام يقود الحياة (مصدر سابق) / ص: 153.

34 - الإسلام يقود الحياة (مصدر سابق) / ص: 153 بتصرف.

35 - الإسلام يقود الحياة (مصدر سابق) / ص: 153.

36 - الإسلام يقود الحياة (مصدر سابق) / ص: 153.