لاشك أن سقوط الطاغية قد أزال كل العقبات التي وضعها في طريق الفيليين لنيل حقوقهم الوطنية، فأمنوا على عراقيتهم ونالوا حقوقهم الممنوحة لهم دستورياً. وعلى فرضية التغيير، فان الفيليين وضح أمامهم السبيل فليس عليهم سوى أن يخطوا بثقة من الحرمان الى النيل ليتساووا ببقية العراقيين بوصفهم مكونا معترفاً به من مكوناته. ان التغيير قد وقع، ووضع العراقيين جميعاً، ومنهم الفيليون، على بداية درب جديد ليباشروه. الا ان القوى الجديدة والظروف الجديدة أضافت على نغمة التغيير المفردة نغمات كثيرة منسجمة ومنشزة. عموماً حصل الفيليون على امتيازات واضحة تؤكد أنهم عراقيون تماماً؛ فهم مذكورون في ديباجة الدستور، ورفع منعهم من الوظائف المهمة: الاستاذ، الضابط، القاضي.. بل حتى الوزير. كما استحدثت وزارة تعنيهم هي (وزارة الهجرة والمهجرين)، وان عنت آخرين غيرهم فهم يشغلون منها أكثرها. ومنح العائدون من ايران وغيرها الجنسية العراقية فواراً واعيدت لهم حقوقه. ومع ما تحقق بقي ما لم يتحقق، وهذا الجزء بعضه واضح محدد، وبعضه هلامي غير محدد. ولكن ما لم يتحقق للفيليين ربما بحجم ما لم يتحقق لغيرهم من العراقيين وكان منتظراً أن يحسمه التغيير. وهو كثير كبير؛ فالعراق الغني جداً لم يعطِ شعبه ما أعطته دول فقيرة جداً لشعوبها، ولذا سيضيع تحديد ما فات أن يتحقق للفيليين في خضم عدم التحقيق العام للعراقيين. وكانت الديمقراطية التي حلت محل الدكتاتورية، قد أسهمت بحريتها المنفلتة بعدم استقرار البلد، الذي أثبت واقعه أنه بحاجة الى مرحلة ممهدة للديمقراطية، أو الى ديمقراطية بمقاسه. فقد جاء مع التغيير أحزاب وقوى كثيرة ابتدأت حال وصولها صراعاً عقيماً مستديماً بينها على احتلال منافذ السلطة والقرار. واذ أن الوضع الفيلي، وهو في مرحلة النقاهة واعادة التأهيل الصحي، قد وضع ضمن اجندة الصراع بين هذه الاحزاب والقوى، فقد زاد أمره تعقيداً وأضيف ضباب كثيف في تفاصيل قضيتهم وحلها. وكانت الازدواجية الفيلية وهي كونهم كرداً وشيعة، جعلتهم يقبلون القسمة على الاحزاب الكردية (الكردستانية) والاحزاب الشيعية، وبالتالي جعلتهم يتشرذمون بينها. وعلى الرغم مما قدمته الاحزال والمنظمات الكردية والشيعية للفيليين، فإن لها برامجها واجندتها السياسية التي تجعل فائدتها قليلة لشعب يحتاج الى تأهيل تام ومن جديد. ومع هذا الازدواج، فللفيليين ازدواج آخر عرقي كردي- عربي؛ فمنذ عام 16هـ صاروا ينتمون الى العشائر العربية بالولاء ويحملون القابها، انطلاقاً من الفكرة الاسلامية التي تعطي العرب وراثة الارض المفتوحة بالاسلام، وبالتالي انتماء شعوب تلك الارض الى العرب ليكونوا في حمايتهم، الا ان سقوط آخر دولة اسلامية (الدولة العباسية)، واستحواذ القوانين العصرية، كان له أن يعيد بناء المجتمع المسلم على غير نظام القبيلة العربية (أصالة وولاء)، فكانت المواطنة. وهي أفضل حل للمجتمع المسلم التي صار يعيش في دول كثيرة مجزأة تكثر فيها الاعراق والديانات الاخرى. فهي بوصفها هوية جامعة تصهر الخلافات والاختلافات، وهو شأن الدول الكبيرة وأولها أمريكا. وهكذا كان الافضل اعلاء المواطنة ليتساوى العراقيون في الدرجة. الا ان العراق يحتفظ بين كل الدول العربية والمسلمة بالخصوصية القلبية. ولا ينكر أن بريطانيا سعت الى بناء العراق على اساس عشائري، واستمر صدام يعمل بهذا الاتجاه، وحين جاءت امريكا رسخته. ويخطأ من يقول ان صعود القوة العشائرية بعد سقوط صدام يعود الى ضعف الدولة. اذ الدولة تملك من القوة ما أكده واقعها في ثباتها امام التحديات. وانما هي تعمل وفق نظام ديمقراطي مدعم بالعشارية. وقد حسمت قوة العشائر امورا قضائية كبيرة كالقتل والسرقة وغيرها تاركة للقضاء بعد (جلسات الگوامة والفصل) فعلا ثانوياً او روتينياً. وهذا الامر أكبر أسباب صعوبة حل الوضع الفيلي بل استحالته، لأنه أكبر اسباب ضعفهم واختيارهم الذوبان النهائي في العشائر العربية طلباً للقوة وصوناً للحقوق. وعليه فان اعادة التوازن وبداية الحل الجاد لاعادة بناء الانسان الفيلي المهشم يكون من الدولة وبالدولة. واذا زال الاستحواذ العشائري بتسليم الملف القضائي برمته الى الدولة وتكون لها سانداً اجتماعياً وسياسيا في الترويج للانتخابات ودعم المرشحين وغيرها، فان حلاً مرتقباً واعداً سيكون للفيليين. كما سنشهد اشخاصاً معروفين بأنهم عرب يعلنون كرديتهم ويعودون ادراجهم الى عشائرهم واصولهم. وبالمحصلة الفيليون سياسياً، موزعون بين الكردستانيين والشيعة، وليس لهم صوت قوي في البرلمان؛ والموجود منهم في البرلمان ومجالس المحافظات اما يعمل مع احزاب لها اجنداتها، او انه ينكر او لا يهتم بانه فيلي. وعن الشيخ النعماني ان اربعة وزراء في العراق ينكرون فيليتهم. وهذا حرمهم واخّر نيلهم الكثير من الحقوق. واجتماعياً، لا يوجد مجتمع فيلي بمعنى الكلمة. من ناحية الارض سكنوا فقديماً مواطن امتدت من الحدود الى حافات دجلة، وكانوا غالبية سكان بغداد فمنحوها اسمها هذا الذي يعني (جنة الله). وكانوا ضمنيين؛ ساكنوا قديماً الفرس والسريان والنبط، وبعدهم المسلمين بقبائلهم وشعوبهم المختلفة، وثم تقلصها واقتصار العراق على قومياته المعروفة الان، فهم شعب يأتلف ولا يختلف ولا يرسّم ولا ينقسم. وأود تأكيد ان ما يشاع عن كثرتهم المفرطة غير واقعي، وسببه عدم تحديدهم لاستعراب غالبيتهم، كما ان هناك من يروج لهذا القول استثمارا للدعاية السياسية، فهم لا يتجاوزن حقيقة انهم أقلية. ومن ناحية اللغة، أغلب الفيليين اليوم لا يعرف لهجته الكردية، واغلب آباء هؤلاء لا يعرفونها، فهي مقتصرة على الجدود وبعضهم لا يعرفها، فما بال وحال الجيل الرابع الناشئ، والخامس القادم ونزولاً! وهذا يجعل تعلمها واستعادتها في ظل استمرار الظروف على ما هي عليه ضرباً من الخرافة. بل هم استمراراً للحال وعدم وجود خطة شاملة لاعادة تأهيليهم وبنائهم، ماضون الى أن يصبحوا أثراً بعد عين واسماً بلا رسم كالسومريين والبابليين والاندلسيين وغيرهم.
إعادة الإنسان الفيلي ان الحل الجذري لموضوع الفيليين يتحقق في برنامج متكامل يعمل على إعادة بناء أو خلق الأمة الفيلية المتداعية واستعادة كل خطوط شخصيتها المستقلة من: لغة وعادات وتقاليد وفلكلور شعبي وأدب وثقافة. وان وضع هذا البرنامج التكاملي يقتضي مراجعة أطراف الموضوع كلهم (الدولة، الفيلي نفسه، والمجتمع)، وتقديم اقتراحات شاملة لا تبقي منطقة غير مضاءة. الطرف الأول- الدولة: على الدولة تحقيق الآتي: • التعجيل بإصدار البطاقة الوطنية الموحدة وإلغاء نظام شهادة الجنسية، وتكون البطاقة بلا تأشيرات بارزة أو خفية، واخراج الفيليين من شعبة الاجانب واقتصار الشعبة على الاجانب الحقيقيين. • اعطاء المهجرين حقوقهم بشكل كامل: ما تركوه من املاك، وما خسروه من وظيفة ونحوها، وتعويضهم عن التعسف طيلة السنوات الفائتة ماديا ومعنوياً. • تكون الدولة سانداً معوضاً لهم عن ضعف موقفهم العشائري لتحقيق الاستقرار النفسي والمظلة الواقية. ويعوض عن العشائرية برمتها بقوة الدولة، وتترك الامور الاجتماعية فقط للعشائر، وهذا يسهل رجوع الفيليين الى قبائلهم الكردية لان الثقل العشائري الذي يستدعي تمسك الفيليين بعشائهم العربية سيتحول الى الدولة. • اعطاء الفيليين استثناءات في الميادين كافة كالتعيين والتقاعد (عدم مطالبة من تعين وهو كبير في السن بـ(25) سنة) والدراسة الاولية والعليا. • انشاء فضائية فيلية تجعل وكدها اعادة الهوية الفيلية بإحياء اللغة الكردية الفيلية، والفلكلور الشعبي، والعادات والتقاليد، مما يعيد الشخصية الفيلية بكل اجزائها. فضلا عن إدراج اللغة الفيلية مادة في المقررات الدراسية، والسماح بفتح مدارس فيلية خاصة.
الطرف الثاني- الإنسان الفيلي: يتطلب من الفيلي نفسه: • أن يمنح نفسه الثقة والقدرة على إعلان فيليته والتعامل بها بين الناس بلا تردد او خوف، وعدم نكران أصله وادعاء اصل آخر، مع محافظته على اسلوبه التاريخي المتوارث في العيش بانسجام وتماهٍ مع غيره من العراقيين على مبدأ المواطنة الصالحة بوصفها الهوية الرئيسة. • الحرص الشديد على تعلم اللغة الكردية الفيلية لانها هويته الفيلية ولسان آبائه واجداده، وتعليمها لأبنائه. • القيام بممارسة تقاليده وعاداته الخاصة وأعياده وفلكلوره الخاص، فضلا عن تمسكه بالعادات العراقية المشتركة بينه وبين شرائح المجتمع الباقية. • استعادة ذاته الضائعة بلا مصلحية، لتكوين مجتمع فيلي له خصوصيته ضمن المجتمع العراقي بلا تحديد. الطرف الثالث- المجتمع: يقع على كاهل المجتمع: • تشجيع الفيليين على إعلان فيليتهم، واحترامهم بوصفهم شريحة عراقية صميمية. • تقبلهم كرداً وليس مستعربين، وعدم التحسس من كرديتهم في حال استعادتهم اياها بعد نسيان. وعدم التشكيك بوطنيتهم العراقية او الظن بأن وعيهم الكردي ممكن توجيهه الى المطالبة بحكم ذاتي او دولة مستقلة، فان المنطق والمنطوق الفيلي لا يسمحان بانفصال جزئي او تام، ومن تكلم به فهو خارج هذا المنطوق ولا يمثل الفيلية والفيليين. وقد بدأت خطوات واعدة إلى تحقيق هذا البرناج، فالدولة اعادت للفيليين الكثير من حقوقهم، واعتبرتهم من الاقليات في قانون المفوضية العليا للانتخابات، ووعدت باصدار البطاقة الموحدة. والفيليون بدؤوا تدريجياً يتشجعون على اعلان فيليتهم وبقي ايضاً كثير منهم تمنعه منزلته وعلاقاته العشائرية او وضعه الخاص من ذلك الاعلان. وعلى المستوى العشائري تم في حسينية الاحمدي ببغداد يوم الجمعة 25/11/2011 الإعلان عن تأسيس (مجلس عشائر الكرد الفيليين)، وهو تجمع عشائري غير سياسي ولا حزبي يهدف الى توحيد الفيليين تحت خيمة اجتماعية عشائرية. وتم الاتفاق على اختيار (الحاج صفاء حافظ فيلي) شيخاً عاماً على عشائر الكرد الفيليين في بغداد والسيد (سمير محمد ربكي فيلي) نائباً للشيخ العام وتم الاتفاق على أن تضم العشائر الفيلية احد عشرا فخذاً (قابلة للزيادة). وفي الكوت توجد مشيخة فيلية لها ثقلها العشائري المحترم من العرب. ويمثل السيد (ياسين عيسى گرگة) شيخ مشايخ العشائر الفيلية عدا عشيرة شوهان، والسيد (حسين جاني) شيخ عشيرة (ملكشاهي) في الكوت. وقام السيد عادل شوهاني الامين العام لحركة الاخاء الفيلي بجمع عشيرة شوهان في الكوت، وشكّل لجنة لتحقيق ذلك، وجعل لها جزءاً من ميزانية الحركة. وعموماً فإن تحقيق هذا البرنامج الثلاثي البنائي يحتاج إلى الوقت والصبر والثقة، وبتعاون الدولة والفيليين والمجتمع سيتحقق حتماً.
|