الإعتراف بأن النظام الحالي هو نظام للأزمات أكثر منه نظاما للبناء يجب أن يقودنا مباشرة إلى البحث عن اسباب الخلل في بنية النظام وعمقه لا على سطحه. هناك سوف نجد غيابا للبرنامج الوطني وسيادة لثقافة الأحزاب الإسلاموطائفية التي لا يمكن لها أن تخلق وطنا مشتركا, ثم أيضا وكنتيجة لذلك: وضع ما هو وطني لخدمة الإقليمي وليس العكس. وهذا التحليل لا ينطبق الآن فقط على الأحزاب الإسلاموية الشيعية بل على كل حزب طائفي على الجهتين, ومن الطبيعي ان يشمل ذلك التيارات التكفيرية والحركة الوهابية. لكن هناك ثمة حاجة لمعرفة أن الصورة في المناطق (السنية) تختلط فيها الكثير من العوامل ,ومن يتصور أن هذه الساحة كانت قد خلت تماما من الطائفيين أو التكفيرين لا بد وأنه جاهل تماما . إن كل من يتأكد من ذلك ولا يعمل بعدها على مد كلتا يديه للتعاون مع التيارات المعتدلة, وتقديم كل الإصلاحات والمكاسب التي من شأنها تضييق رقعة تأثير التيارات المتطرفة, فهذا لا شك أما شخص جاهل في السياسة, أو إنه لقصد يسعى إلى إرباك الساحة العراقية في المناطق الغربية من خلال مساهمة غير مباشرة لتنشيط التيارات الطائفية المقابلة او حتى التكفيرية المتطرفة بالمستوى الذي يجعله قادرا على إنجاز لعبة التخويف الطائفية التي باتت اليوم إحدى أهم مرتكزات النظام. ولعل ذلك ليس هو الهدف الوحيد, فالمراهنة على كسب الموقف الغربي والأمريكي غالبا ما تتخذ شكل التخويف بالبديل التكفيري وخاصة ذلك المتمثل بالقاعدة. وهذا ما رأيناه في سوريا في بداية ثورتها الحالية حينما راح بشار الأسد يؤكد على أن الثوار هم مجموعة من الإرهابيين الذين سوف يندم الغرب إذا قدم المساعدات لهم, على رغم أنفضاح دوره كأحد الداعمين لهذا التنظيم الإجرامي الذي أمعن قتلا بالعراقيين لسنوات طوال, والذي بسببه كادت الحكومة العراقية ممثلة برئسها المالكي ان تتقدم بشكوى ضده كداعم للإرهاب والقاعدة لولا تدخل كان متوقعا من الإيرانيين لتبريد حدة المواجهة. هذه اللعبة كانت تكررت مع القذافي ايضا الذي عمل على أن يقدم نفسه حارسا امينا للبوابة الشمال إفريقية التي يمكن أن يتهدد الإرهاب منها الحضارة الغربية مثلما يتهدد مصالحها الإستراتيجية وأمنها الداخلي. أما علي عبدالله صالح الذي كان من أفضل الراقصين مع الذئاب في المنطقة العربية فإن مهارته تلك قد خانته حقا حينما لم يستطع مواصلة لعبة إستثمار التهديد بالقاعدة لتخويف الغرب الذي ظن أنه سيكسب من خلاله وبشكل سياقي الدعم والمساندة على حساب شعبه الثائر. وقبلهم كان صدام حسين قد تقدم برأس ابو نضال الفلسطيني عربونا لتأكيد حسن نواياه تجاه أمريكا التي كانت قد وضعته في خانة الإرهاب . والمبكي المضحك التي تثيره هذه التخويفات أن هذه الأنظمة التي كانت تدعي عداء مطلقا للغرب تأكدت بعد رحلتها الثورية المفلسة أن سلاحها الأقوى بات هو التأكيد للغرب على أنها الجدار الحقيقي الذي من شأن إنهياره أن بجعل الإرهابيون يقفون على مرمى حجر منه مهددين حضارته ومصالحة الإستراتيجية. إني أتعجب من أولئك الذين يعتقدون أنهم بإشاراتهم إلى وجود واضح للتكفيريين والقاعدة في المناطق الغربية إنما يكشفون عن سر خطير كنا نجهله. لا بل أن إعترافهم هذا, مع نكوص عن تقديم إصلاحات جذرية وطنية يكشف من جانب آخر عن إستعدادات لتغذية تلك التيارات ودفعها لتصدر واجهة الأحداث في سبيل رفع حدة التخويف الذي بدى أنها لا تمتلك غيره.. لو كان صدام عاقلا لما فرش بسياسته القمعية وحروبه الغبية الأرض العراقية للإحتلال وجعل العراقيين ميالين بكل الأشكال للتخلص منه, وحتى للتصفيق للإحتلال نفسه.. إذن هي معادلة لا تقبل القسمة ابدا يشترك فيها الحاكم القمعي أو الجاهل أو الطائفي على جهة والقوى الأثيمة على جهة أخرى لجعل الوطن ساحة للتردي. وليس من الحق تأشير طرف إقليمي طامع دون آخر. وإن ما يجعلنا محصنين ضد الأطماع الإقليمية أو الدولية هو وجود حكم وطني لا يميز بين المسلم أو المسيحي, العربي أو الكردي او التركماني, الشيعي او السني إلا بمقدار خروج من يخرج على التوصيف الأساسي للحالة الوطنية. وما دمنا نقر أن الصراعات الإقليمية, سعودية كانت أم إيرانية أو غيرها هي قائمة ومستمرة ومؤثرة وذات أهداف إستراتيجية متوزعة على الذاتي أو المحاوري الدولي والإقليمي, فإن النأي عن الوقوع في أخطارها إنما يتمثل بوجود الدولة الوطنية التي تدخل إلى علاقاتها الإقليمية من خلال بوابتها الوطنية وليس العكس. إن تطور الصراع بإتجاه مسلح ونمو التيارات التكفيرية وحتى عودة القاعدة إلى نشاطها هو تعبير عن هذا الخلل البنيوي في النظام والذي لا يمكن إصلاحه ما لم يكن هناك نزوح نحو معالجات جذرية تتناول أسس النظام الطائفي نفسه. خلاف ذلك سوف يتم الهروب من مواجهة أساسيات المشكلة إلى معالجات سطحية إنهزامية وتسويفية ليس في مقدورها إيقاف عجلة التدهور, ولا في إمكانها منع الأزمة من أن تلد أخرى. |