ذهلتُ من قول أحدهم بأن عليّ الخشية على نفسي حين كتبت عن مقتل عضو مجلس البصرة المنتهية ولايته علي حسين علي، لأن أوضاع البصرة والعراق بشكل عام تسير نحو الهاوية، وان عليَ ألا اتعرض لمثل هذه الحوادث، فقلت له يا أخي أنا أشكرك إذ تنبهني على حياتي التي لا اظنها أغلى من حياة أي عراقي ، لكن ما كتبته لا يتجاوز المرثية، فأنا رجل شاعر قبل كل شيء وأجد أن إزهاق أرواح الناس بهذه العجالة والإفراط يثير الرعب في نفسي، ومع ذلك فأني اعاهدك بأني لن أقول أو أتحدث عن سبب سياسي ديني طائفي يكمن خلف المقاتل تلك، بل سأقول بأن الضمير الإنساني مات ولم يعد للجسد حرمة وصارت أرواح الناس بيد المسدسات. وما أن أكملت جملتي معه حتى سمعت صوت إطلاق نار قريب منا، لا لم يكن الصوت مكتوما، كان من مسدس أو بندقية، لا أعرف إن كان ذلك بعد صلاة الفجر أمس. لقد قتلوا أسعد، أي أسعد؟ :أسعد ابن حجي ناصر الطويشة. هكذا وانتهى الكلام لكن الناس هرعت وغطت الخبر فقالوا إن الشيخ أسعد، (الشيخ) متى أصبح أسعد شيخا؟ المهم أن رجالا يستقلون سيارة لحقوه بعد صلاة الفجر أثناء عودته من مسجده في قرية فجة النعمة، حيث يصلي، وفي زقاق ضيق حاصروه وقتلوه، وحاول تفادي مقتله لكنه لم يتمكن، و لماذا قتلوه ؟ لا أحد يجيب !!! . أعرف أسعد ناصر محمد مثلما أعرف أيَّ إنسان خلقه الله في القرية الصغيرة حيث أعيش. كانت أمه الحاجّة فاطمة تزور زوجة عمّي الملّاية معصومة، كانت صديقتها جدا، حتى أني كنت أحسبها شقيقتها، فهي تتبعها إلى مأتم العزاء في العاشوراء ، وكثيرا ما شاهدتها بعينين حمراوين بعد انتهاء مجلس العزاء وخروجهن منه. شقيقه محمد (رحمه الله) كان عونا لنا حين كنا نرقد مرضى في المستشفى التعليمي، حيث كان يعمل موظفا صحيا، فهو الوحيد الذي نعرفه هنا، وحتى أمس القريب كنت قد استدنت من شقيقه وليد كمية من السماد العضوي لبستاني (يعمل في تربية الحيوانات) وحين الحفتُ عليه بأخذ ثمن عنه رفض وأصر على رفضه. شقيقهم الأصغر أحمد يملك دكانا صغيرا يتبضع الناس منه الرز والشاي والسمن والحليب والقشطة والبيض وكل ما يحتاجه بسطاء القرية الصغيرة في صباحاتهم ومساءاتهم لا يطالبك بدين أبداً، فهو أخْجَلُ مِن أنْ يقول لك سددّْ ما تعاظم من ديونك. أبوهم الحاج ناصر الطويشة ظل فلاحا في بستان يملكها كويتي من أسرة أبي الخيل المعروفة حتى اليوم. قلت لن أتحدث في أسباب القتل الذي يجتاح البصرة مثل الوباء، ولن أقول بأن السياسة والأمن والطائفية وراء المقاتل تلك ذلك لأني أخشى على صدري من الصوائت والكواتم، اخشى على أولادي السبعة من اليُتم، أخشى على زوجتي من الترمل وعلى أولادي وأحفادي من الضياع، وأكره كثيرا اليافطة التي سيعلقونها على مدخل المسجد أو الحسينية وعند نقطة قريبة من الجرس بدار بيتي، هذا المشهد الذي لا أطيقه سيتكرر كثيرا مع أشقاء أسعد ومع أولاده الذين يلعبون مع احفادي في المدرسة المشتركة. حاولت ثني ابني أحمد عن الذهاب إلى دائرة الطب العدلي مع من ذهب من ابناء القرية لكنه أبى، كنت أخشى عليه من أن القتلة قد يتعرضون للمشيعين هناك ، كما حدث ويحدث غالباً، فصرخت : يا رب اعده سالما لي فأنا لا أحتمل فاجعة بعد. في الحرب مع إيران "مات" أسعد ابن حجي ناصر الطويشة بعد أن احترقت دبابته بالذي فيها، لكنه وبعد عمليات عدة خرج معاقاً، وحتى ساعة مصرعه أمس بعد صلاة الفجر ظلت آثار الحروق في وجهه ويديه وقدميه ورقبته، ومع صورته تلك تزوج البنت الشيعية التي أحبها قبل الحرب. لم ترفض المسكينة طلبه، وقد رزقوا بأولاد وبنات وتمكن من شراء سيارة بيكب صغيرة، لم أره متشدداً في صلاة وصيام. قبل عام ذهب معتمراً وخط أولاده على باب دارهم يافطة بيضاء تقول :( أهلا بمن حج وأعتمر وزار سيد البشر) هذا كل ما أعرفه عنه. يقول جار لهم بأنه كان يقرأ في كتب دينية، وصار يقرأ القرآن، يقرأ به ساعة فراغه من بيع وشراء في دكانه الصغير، وما الضير في ذلك؟ صار يؤم جماعة في مسجد قرية فجة النعمة، ويؤذن للصلاة هناك، وأين المشكلة؟ ويعلق جارهم، مُوو هو سني!!!! فأعجب هل هذه موجبات ليقتل إنسان لديه زوجة وأبناء وأشقاء؟ لكني وفي لحظات كثيرة كنت غالبا ما أقرأ في مصائر إنسانية غريبة، مصائر كان ينبغي تفاديها، إذ ما معنى أن يذهب أحدنا للصلاة في مسجد، وما معنى ان يكون قارئا في مصحف أو حافظا للحديث ومستمعا للمحاضرات من الراديو والتلفزيون، بمعنى لماذا يسعى البعض للمعرفة إذا كانت المعارف جميعها تؤدي بهم للموت، بل لو شئت النصح لقلت لأسعد وسواه من المقتولين والذين سيقتلون في قابل الأيام :كونوا عقلاء أسركم، ولا تذهبوا لمسجد فيه صلاة فجر كالتي قتل بها أسعد أو صلاة عصر كالتي قتل فيها علي حسين علي. ولا تحفظوا القرآن، بل لا تقرؤوا فيه ساعة فراغكم من بيع وشراء ذلك لأن أشياء مثل هذه موجبة للقتل في أيامنا بالبصرة، وهي المُعَّجِلة بمستقبلنا المشؤوم في العراق.
|