ضحايا الإرهاب وتعويضاتهم

 

حتى ضحايا الإرهاب في زمن المصائب والويلات والنكبات التي مرت بالعراق لم يسلموا من التصنيف إلى أصناف وفئات ومجاميع سياسية ومدنية وعسكرية, فتراكمت ملفات التعويضات, وتكدست بالآلاف في مكاتب هيئة التقاعد الوطنية لتخصيص رواتب لذويهم, ما أدى إلى ضياع ذوي الضحايا في متاهات الروتين, وتعقيدات الإجراءات الحكومية, وربما أدى انخفاض مبالغ التعويضات إلى وضع العوائل المتضررة في ضيق من العيش. لقد شرعت بنود وأحكام القانون (20) لسنة 2009 بنوايا صادقة, بيد أن البيروقراطية المقيتة, ومسالكها الوعرة, هي التي أودت بمضامينها الايجابية, وهي التي أطاحت بآمال المتضررين من الأرامل والأيتام, وحرمتهم من الرعاية المجزية لتعويضهم عن الدماء الزكية, التي سالت من الأجساد البريئة, والأرواح الطاهرة التي أُزهقت غدراً في الأسواق والمدارس والمساجد والساحات بالعبوات الناسفة والسيارات المفخخة والعيارات النارية الطائشة والمسدسات الكاتمة, فقتلت الناس بالآلاف في أماكن دمرتها الانفجارات, ومزقتها الشظايا, ودفنها الرماد, فاختفى فيها الشهود, وغابت عنها محاضر الضبط, ولم تصلها اللجان التحقيقية, وتطايرت أوراقها في مهب الريح, وربما لم تعلم مراكز الشرطة بحيثيات الحوادث, التي تندلع كل يوم تقريباً في أماكن طُمست فيها أركان الدعاوى القضائية, وسجلت فيها الجريمة ضد شبح الإرهاب. ربما يطول بنا الحديث عن القصص والروايات المروعة, التي ضاعت فيها حقوق الضحايا في معامل صناعة الموت والدمار, لكننا سنختزلها كلها في قصة استشهاد المواطن محمد بن محمود النجار في البصرة على يد القوات البريطانية الغازية, ليلة الجمعة في الثاني والعشرين من حزيران (يونيو) 2007. كان من المفترض أن تتضمن أحكام القانون (20) تعويض جميع المتضررين من العمليات العسكرية, التي عصفت بالعراق ابتداءً من اليوم التاسع من نيسان (أبريل) 2003 وحتى يومنا هذا, سواء كانت العمليات العسكرية من القوات الأمريكية, أو البريطانية, أو القوات العراقية, أو الإرهابيين, أو الخارجين عن القانون, ويفترض أن تتشكل بموجب هذا القانون لجان في كل محافظة عراقية, تناط بها مهمة جمع البيانات والوثائق وتسجيل شهادات الشهود, على أن تقوم برفع القضايا والملفات بكل متضرر إلى وزارة المالية, ثم تتولى وزارة المالية إطلاق المبالغ من دون تفريق بين شهيد وآخر, ومن دون تمييز بين متضرر وآخر, لكننا عندما نقرأ حكاية الشهيد الشاب (17 سنة) محمد بن محمود النجار, نكتشف الفوارق في التعويض. كان (محمد) يتبادل مع زملائه في الحي نوبات الحراسة الليلية لحماية المسجد القريب من دارهم في منطقة (نهير الليل), وعلى وجه التحديد في شارع (بيت الرديني), شاءت الأقدار أن تكون ليلة 22/4/2007 هي الليلة التي كُلف فيها (محمد) بحراسة المسجد, بعد تمتعه بإجازة طويلة لمراجعة المقررات الدراسية استعداداً لخوض الامتحانات النهائية لطلبة الصف الخامس العلمي. حمل (محمد) فراش الطوارئ وأغراضه الشخصية, وغادر المنزل بعزيمة ثابتة متوجها إلى المسجد, كانت عقارب الساعة تجاوزت العاشرة ليلا, فالتقى والده في الطريق, طلب منه الإذن لأداء الواجب المكلف به, فربت والده على كتفه, وشجعه على الخدمة في بيوت الله. وصل محمد إلى المسجد, وكانت الكهرباء مقطوعة تماماً عن الحي بكامله, فصعد وزملائه إلى سطح المسجد بحثاً عن البرودة التي توفرها أجواء البصرة في ليالي الصيف, وتزامن صعودهم مع دخول قطعات من القوات البريطانية إلى المنطقة, اقتحم البريطانيون المنطقة في رتل مدرع, ثم توجهوا إلى مخازن التمور, وكانوا يلهون كعادتهم بإطلاق سلسلة من العيارات النارية الطائشة, التي استهدفت البيوت والمساجد والمدارس, فسقط (محمد) مضرجا بدمه. لم يسمحوا للمسعفين بالوصول إليه, ولم يسمحوا بنقله إلى المستشفى, فنزف حتى مات فوق سطح المسجد, ولم يتمكنوا من إخلاء جثمانه من المبنى إلا بعد انسحاب القوات البريطانية صباح اليوم التالي من مناطق (الحكيمية) و(التميمية), وأسفر التحقيق في ملابسات الحادث عن تسجيل الجريمة ضد مجهول, واعتبار الشهيد من ضحايا الإرهاب, ليلتحق بقوافل المدنيين الشهداء. لم تستلم أسرته حقوقها التي أقرها القانون, إذ أشعرتهم اللجنة القادمة من بغداد صباح يوم 26/4/2013 : إن والد الشهيد ووالدته لا يستحقون التعويض باعتبارهم يعملون في مؤسسات الدولة. من المفارقات العجيبة إن القانون يسمح للشهيد والسجين السياسي الجمع بين راتبين, ولا يسمح لشهيد الإرهاب الجمع بين راتبين, وهذا هو التفاوت بين ضحايا الإرهاب, على الرغم من اصطفافهم كلهم تحت رحمة الله الواحد الأحد الفرد الصمد. فمتى تبادر الجهات المعنية بإصدار تشريعاتها العادلة, التي قد تخفف من حرقة قلوب ذوي الشهداء من ضحايا العمليات الإرهابية ؟؟. اللهم يا من عنت الوجوه لعظمته, بحق قدرتك على خلقك, نسألك أن تكرم شهدائنا, اللهم أبدلهم داراً خيراً من دارهم, وأدخلهم الفردوس, واجعل قبورهم روضة من رياض الجنة, واغفر لهم ولنا يا أرحم الراحمين.