أبو كريّم شيخٌ كبير حلمه أن يحج الى مكة.
مؤمن من أهل الله يعمل مؤذنا في مسجد قرية آل سهلان في مدينة الغرّاف.
له من الأولاد سبعة أكبرهم نايب عريف شرطة كريّم.
أبو كريّم حاله حال أبناء القرى الطيبين يحب الناس ويتمنى لهم الخير ويتفقدهم كل يوم في السوق، في الشارع، وفي ديوان شيخ العشيرة ليلا.
ولكن أبو كريّم رغم كبر سنه وهيبة ايمانه فان الضحكة لا تفارق محيّاه، فقد كان سريع البديهية حاضر النكتة، يشيع الفرح أينما حلّ على الرغم من فقده اثنين من أبنائه في حرب ايران، وواحد في حرب الكويت، وزوجته وابنه الأصغر في تفجير مدينة البطحاء شمال الناصرية
وفوق هذا كله كان كثير العلل ودائم المراجعة للطبيب. يقول ابنه البكر كريّم ان أباه أجرى ما يقارب العشرين عملية جراحية لجسده النحيل، منها للعين ومنها للكلى ومنها قسطرة للقلب وغيرها كثير، ويقول بأنه كان يبتسم حينما يخبره الطبيب بوجوب اجراء العملية، بل كان يمازح طبيب التخدير ويغازل الممرضات في صالة العمليات قبل البدء بعملهم.
يقول كريّم كنتُ صاعدا على النخلة عندما سمعت صراخ ابنتي بأن جدها (تخربط) فقفزت من النخلة الى الأرض وهرولت لأجد أبي وقد ساءت حالته الصحية.
كانت نوبة قلبية.. نقلناه على إثرها الى بغداد.
وفي مدينة الطب وقبل أن يحين موعد عملية القلب طلب مني ابي أن افتح له النافذة ليكلم الله! نفذت أمره وانسحبت قليلا الى الوراء لأرى والدي بما لم أره به من قبل ولأسمع منه ما لم أسمعه يوما.
كان أبو كريّم حينها جزعا فاقدا لصبره المعهود وهو يخاطب ربه بلهجته الجنوبية (أدري! شگالولك؟ يا هو آنه؟ أيوب عليه السلام؟ لو يعقوب الراحت عيونه على وليده؟)
يقول كريّم قلت له (بويه على كيفك صلّ على محمد)
فأجابني (هوَّ على كيفه موش آنه) ليستمرّ في عتبه لربّه (چا انت شني ما لگيت غيري تبتليه.. يوميّة مصيبة شكل ويوميّة مرض ويوميّة عملية.. انت ليش الّي يحبّك تطيّح حظه وتنعل والديه؟!).
اليوم تذكرت كلمات ابو كريّم عندما شاهدت منظر الموت يعود بقوة الى بغداد وفقدت صبري مثل أبو كريّم تماما عندما شاهدتُ صورة أبٍ يحتضن ولده النحيل وهو فاقد لطفولته على يد شيوخ العهر الطائفي، فخرجت الى البالكون أنظر الى السماء مرددا (چا انت شني ما لگيت غيرنا تبتليه؟!.. انت ليش الّلي يحبك تطيّح حظه وتنعل والديه؟!).
كاتب عراقي يقيم في النرويج. |