منذ قرابة شهر لم أتطرق للتدهور الأمني، لكن قارئا اسمه مصطفى المفتي أجبرني مساء أمس على هذا من دون أن يقصد. كانت ثمة رسالة عاجلة منه على بريدي تقول ـ أستاذ محمد، أنا مصطفى من الأعظمية الذي راسلتك قبل سنة، هل تتذكرني؟ محتاجك خمس دقائق أحكي معك. ثم أثبتَ رقم هاتفه. نعم، أتذكره جيدا. كان كتب لي قبل عام، على إيميلي، رسالة قلت حينها إنها الأروع التي تردني، وفيها يحرّضني على أن أواصل الكتابة بلسان الناس ولهجاتهم وأنقل أحلامهم ومخاوفهم. وإنني لأتذكر جيدا كيف أثّرت بي رسالته بحيث كتبت عنها مقالة في اليوم التالي. مقالة قلت فيها إن المكاريد في العراق يكملون بعضهم الآخر رغم ما يبدو بينهم من اختلافات طارئة، وان ما يئن له الفقير في الأعظمية هو ذاته الذي يوجع رفيقه في (حي أور). أمس أعادني مصطفى لتلك اللحظة. رددت عليه فأجابني. نظرتُ لصورته في شاشة الحاسبة، فإذا هو بغداديٌ وسيمٌ، (ماخذ بوزة) عظماوية تجنن. قلت له ـ سأتصل بك حالا لأتفهم ما تريد. ثم اتصلت به. كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل. قلت لنفسي ـ الناس ربما الآن نيام في الأعظمية وفي كلِّ العراق، والخوف من تجدد الفتنة يكبس على أفئدتهم. ردَّ قارئي فورا، قلت له ـ مرحبا أستاذ مصطفى. فقال ـ أهلا، أنت أستاذ محمد؟ فقلت له ـ نعم، كيف الأحوال، فانفجر بتحياتٍ لا يجيدها أناسٍ كما يجيدها أهالي الأعظمية. كان صوتُهُ خجولا، مؤدبا، متحضّرا، وذكّرني فورا بكثير من أصدقائي البغداديين. كلمة (داد) لم تفارقه ونبرة الفرح تكاد تنطّ من بين حروفه. لن أعرض المسألة الاجتماعية التي أضاءها لي فهي تحتاج مقالة أخرى. لكنني، وأنا أتجاذب معه أطراف الحديث، تذكّرت ما يجري منذ أشهر هنا وهناك من محاولات خبيثة لجعلنا نقتتل فيما بيننا، أنا ومصطفى، هو بوصفه (عظماوي) قاعدي، من فلول البعث، صاحب أجندة تركية ـ قطرية، وأنا بوصفي (شروكي) صفوي، من أذناب الاحتلال ومن جماعة (ما ننطيها). تذكرت ما يجري من غسلٍ للأدمغة، ومن تعميم وقولبة للآخر، والغاية تنظيمنا كجيشين متقابلين يفصل بيننا ساتر وهمي اسمه (القناة) مرة و(جسر الأئمة) تارة. لا أودُّ الحديث باسم أحد، وإن كنت مطمئنا بوجود كثيرين يقاسمونني رؤاي في هذه المسألة. غير أنني أقول؛ نعم، أنا شروكيٌّ قح، وممن يعتزون بانتمائهم لهويتهم الفرعية. لا أخشى من التعبير عن هذا كباقي المثقفين الذين يستكنفون منها. لكنني، قبل أيِّ شيء، عراقيٌ، وفي بطن هويتي تصبٌ أنهارٌ لا حصر لها من الانتماءات. بي من الصابئة شيءٌ لا أدري ما هو. ومن المسيحيين لاحني عرقٌ خلفه أجدادي القدامى. لي مع الدليم والجبور والكرد نسغٌ ينبض من جهة ما. ولديّ مع البغادة بيتٌ أسكنه منذ أن ولدت في هذه المدينة. تشممتُ عطرَ النهر مثل ابن (الشالجية) وعبرت جسر الشهداء مرات ومرات لمجرد الاستمتاع بمزاج المكان. في الأعظمية كان لي أول موعد غرامي مع حبيبة، تواعدنا قرب مكتبة (الصباح) وتجولنا لساعتين في الدرابين، يوم كان العشاق يلوذون بالأنهار وبظلال الأشجار بحثا عن البهجة. خطر هذا كلّه في ذهني وأنا أضحك مع مصطفى، تذكّرنا كيف كنّا نشجّع الزوراء والشرطة والقوة الجوية، وكيف كان بعضنا (يصنّف) على الآخر بمحبة نفتقدها اليوم. كان صوته البغدادي يخترق صمت الليل مزيحا مخاوفي من تجدد الموت والفتن. لا أريد أن أطيل عليكم. كانت مجرد مكالمة عن مسألة تخصُّ الشباب أرادَ تنبيهي لها ـ وأنا عائد لها لاحقا ـ ، لكن المكالمة، بالنسبة لي، أنا المتوجس مما يحدث، مثّلت شيئا آخر، شيء أقرب لحوار داخلي حميم بين جزأين في هوية واحدة. هوية يراد فصلها بعملية جراحية وبدون مخدر. فاتقوا الله فينا يا أولي الأمر وتحركوا، الليل يوشك أن يرخي سدوله، ويا ويلنا من التيه بعده. |