متى تبكون علينا ؟؟

 

 

 

 

 

بكت الحكومة الأمريكية كلها وحزنت حزنا شديداً, وحزنت معها العواصم المتآلفة معها, والملتفة حولها, والسائرة في ركابها, وحزنت معها أيضاً جامعتنا العربية, التي لم تجمعنا في يوم من الأيام على كلمة واحدة. .

حزنت أمريكا حكومة وشعباً, وعبرت عن حزنها العميق على لسان رئيسها, فنكست أعلامها على روح رجل واحد سقط في بوسطن من بين متفرجي سباق الماراثون, الذي تقيمه بلدية المدينة سنويا منذ عقود بمناسبة ذكرى انسحاب الجيش البريطاني منها. .

تعرضت بغداد في يوم الانفجار الأمريكي لحملة أخرى من الانفجارات العشوائية طحنت معها المدن العراقية الواقعة في فوهات البراكين المزمنة, فراح ضحيتها العشرات من الفقراء الساعين خلف لقمة العيش, في ماراثون الكفاح اليومي, لسد رمق الأفواه الجائعة, لفظوا أنفاسهم وفارقوا الحياة من دون أن يكترث أحد, ومن دون أن نسمع كلمة مواساة من أسيادنا وقادتنا, ومن دون أن تحزن علينا الدول العربية, هكذا نحن نموت كل يوم بالعشرات من دون أن ينتبه إلينا أحد. .

حتى محطاتنا الفضائية المئوية تجاهلتنا, وراحت تنعى شهيد بوسطن وتبكي عليه بحرقة, أما الجزيرة وأخواتها فقد اتشحت بالسواد, وقطعت برامجها  لترفع عقيرتها بالصياح والنياح والبكاء والعويل على روح الفقيد الغالي, وتعالت في استوديوهاتها لهجة التهديد والوعيد والاستنكار الشديد  ضد القوى الإرهابية الغاشمة التي انتهكت حرمة مدينة بوسطن. .

لم يحدث أي انفجار منذ عام 2001 في أمريكا, التي يزيد عدد ولاياتها على عدد البلدان العربية, والتي تزيد مساحة أصغر ولاياتها على مساحة دول  مجلس التعاون كلها, لكنها ما أن وقع هذا الانفجار العابر على أرضها حتى سقط رئيسها مغشياً عليه, وأجهش بالبكاء, وتضامن معه رجال البنتاغون والماراثون, فوقفوا يذرفون الدموع في الحفل التأبيني المقام على روح القتيل والجرحى الثمانية. .

أمريكا راعية الإرهاب تبكي وتلطم وتنتحب على ابنها وفلذة كبدها, الذي أصيب في انفجار صغير بحجم انفجار إطارات الشاحنات الكبيرة في شوارعنا المعتادة على العبوات الناسفة, والعجلات المفخخة, والقذائف الذكية, والصواريخ البالاستية, والصواعق النارية. .

لقد توالى سقوط الحمم فوق رؤوسنا على مدى ربع قرن من الزمان, وتمزقت أجسادنا بشظاياها الملوثة, وسمومها الكيماوية, وأشعتها الذرية المميتة من دون أن يبكي علينا أحد, ومن دون أن يتضامن معنا أحد, ومن دون أن يواسينا الجيران والأصدقاء. .

فعلى الرغم من مرورنا بأطول متوالية مأساوية لمسلسلات الانفجارات الدامية في تاريخ كوكب الأرض, كانت إذاعاتنا تصدح ليل نهار بأغبى الأناشيد وأسخف الترنيمات البليدة, ابتداءً من أغنية (يمه البارود من اشتمه ريحة هيل), وانتهاءً بأغنية (فطموني عالبارود), من دون أن تخجل محطاتنا المسموعة والمرئية من القوافل المليونية للشهداء والأبرياء والمغدورين المذبوحين بخناجر الحقد المسلط على رقابنا صباح مساء منذ ما يزيد على ربع قرن. .    

وقف العالم كله مع الشعب الأمريكي, وتضامن معهم بمصيبتهم البوسطنية الماراثونية, فالدم الأمريكي أغلى بكثير من الدم العراقي في حسابات مجلس الشيوخ الأمريكي, وربما تكون دماؤنا أرخص بكثير في معيار القيادات العربية المتحالفة مع الطغاة والغزاة والحشرات. .

نحن في العراق لا يبكي علينا رئيس, ولا سفير, ولا وزير, ولا وكيل وزارة, ولا محافظ, ولا نائب, ولا قائد, حتى الحانوتي (الدفّان) المكلف بدفننا لا يبكي علينا, والأنكى من ذلك كله إن مجالس العزاء المقامة على أرواح شهدائنا تتحول بعد الدفن إلى استعراضات عشائرية ساخرة, يتظاهر فيها الناس بالبكاء المصطنع, وتنتهي دائما بمسرحية هزلية تُستنزف فيها موارد أهل المتوفى حتى آخر درهم. .

لا شك إننا نتألم كثيراً عند سقوط أي إنسان بأسلحة الغدر والإرهاب, فالناس سواسية في منظورنا الآدمي, ولا فرق عندنا بين الإنسان الأمريكي والعراقي والهندي والاسترالي, فالشعوب والأمم تتساوى كلها في الانتماء للجنس البشري, لكننا نتألم كثيراً عندما نغادر الدنيا عنوة, ونتساقط بالعشرات على أيدي المنظمات, التي امتهنت صناعة الموت من دون أن يكترث لموتنا أحد على الرغم من كل المصائب والكوارث والويلات والنكبات, وعلى الرغم من كل المجازر الجماعية والعشوائية, وعلى الرغم من كل المذابح الطائفية والعرقية والعبثية, التي تُرتكب ضدنا كل يوم. .

اللهم إني استودعك بلدي العراق, رجاله ونساءه وأطفاله, شيوخه وشبابه, اللهم إني استودعك ممتلكاته وثرواته وأرضه وحدوده وخيراته, اللهم إني استودعك أمنه وأمانه وضمان استقراره.