الطائفي الذي نراه.. ولا نراه

 

"لا مكان لكم هنا" لم أُصدق ما قاله لي صديق من أن هذه العبارة قرأها على حائط أحد البيوت.. لم يعرف صاحبي بالتأكيد مَن كتب هذه العبارة، وسنجد أصواتاً تستنكر وأخرى تشجب.. ولكن علينا أن لا ننسى لحظة واحدة أننا نعيش وسط عقليات ظلامية تسعد وتفرح في مطاردة الآخرين..لا يهم مَن خط َّ هذه العبارة المقيتة ولكن الأهم .. هل هو قرار اتخذه أُمراء الطوائف؟ أو أنها مشاعر من الكراهية تضخمت عند البعض، قابلتها هواجس من الخوف جعلت أصحابها يرضخون لتهديدات ميليشيات تختفي تحت جلــد الأحزاب السياسية ، بعد عشر سنوات اكتشف الناس أن لا دولة تحميهم.. ولا تعنيها قضيتهم.. ففي كل حوادث التهجير لم يُحاسب المتسببين في هذا المشهد الطائفي، لأن التقارير الرسمية وتصريحات أصحاب البدل " الأنيقة " تنكر كل ما يقال عن التهجير وتشتم من يتحدث عنه. 
أصحاب رسائل "لا تعودوا إلى بيوتكم" ليسوا بالضرورة ينتمون الى جماعات إرهابية، لكنهم حتماً ينتمون الى ثقافة طائفية ترى في تحقير الآخر وإقصائه غاية ومنهجاً.. وتؤمن أن هذا البلد لا يتحمل أكثر من طائفة واحدة.. وهنا لابد من فرض واقع جديد يعتبر الآخر "غريبا" وعليه أن يقبل بشروط صاحب الدار.. وهو المنهج نفسه الذي يتبعه الكثير من المسؤولين وقادة الكتل السياسية الذين لا يعترفون إلا بالدائرة الضيقة المحيطة بهم، والتي ترى أن الحــلَّ في أزمات البلد هو تحويل الشعب إلى قبائل، كل منها تبحث عن مظلوميتها.. المهم أن يجد الشيعي خلاصه في مطاردة السني، وأن يرى السني سعادته في تحقير الشيعي وشتمه والانتقاص منه.. هذه هي العقلية التي ترفض أن نتساوى جميعا في المواطنة.. عقلية تعادي ما ليس يشبهها.. ولا تجـد للآخر سوى طريقين إما الرحيل أو القتل.. ثارات لا نهـاية لها، اصحابها لا يريدون أن يتأملوا جيداً أن مَن يُقدِّس الموت ويحتقر الحياة ينتهي مثل ما انتهى صاحب "زنقة زنقة" حيث لم يجــد بعد اربعين عاما من الغطرسة  ، مظلة تحمية سوى مجاري القاذورات!
في كتاب جميل وممتع تـُرجم إلى العربية بعنوان" قصص لم تروِها هوليوود" يعلمنا المؤرخ الاميركي هوارد زن من أن الشعوب هي التي تصنع قدرها وليس الساسة.. " إذا كنت مواطناً يجب عليك أن تعرف الفرق بين السياسيين وبينك.. الفرق بين ما يجب عليهم القيام به، وما يجب عليك القيام به.. لذلك يجب أن لا ننجرف نحو حالة من الطاعة والقبول المطلق لما يفعله الحكام. ان مهمتنا هي عدم إعطائهم شيكاً على بياض أو أن نكون مجرد مشجعين وهتـّافين لهم في منازلاتهم.. يجب علينا أن لا ننظر إلى العالم من خلال أعينهم، ونقول حسناً لا بدَّ أن نطيعكم.. كلا يجب أن نجهر بآرائنا بجرأة " .
 ويذكر هوارد أنه تعلم على يــد أستاذه المؤرخ أريك هوبزباوم أن يظل حالما "نعم نحن نحلم، نريد كل شيء جيداً ، نريد عالماً يسوده السلام، نريد عالم العدل والمساواة، لا نريد الحرب، نريد مجتمعاً أخلاقياً، ومن الأفضل أن نتمسك بهذا الحلم بقوة، لأننا إذا لم نفعل ذلك، فسوف نغرق أكثر وأكثر نحو القاع".
تعلمنا تجارب الشعوب أن معارك الكراهية تنتصر مؤقتاً، فالفوز الدائم لأهل التسامح والمحبة والطمانينة.. كم عقداً دام التمييز العنصري في جنوب أفريقيا، وفي النهاية كان الفوز لمانديلا.. كم مرة خرج هتلر صارخاً بصوت عال ٍ، وكم بقي من رنين خطاباته! 
هل نتعلـَّم من هذه التجارب كيف نترجل عن هذه الحلبة الدموية، وأن نضع حداً لجريمة قتل الآخر وتهجيره باسم المظلومية والطائفة والدين؟ قد تبدو المهمة اليوم عسيرة ولكن قديماً قال أرسطو أن ترميم الأوطان ليس بالعمل الهيـِّن.
الذين يكتبون "لا مكان" عليهم أن يسألوا أنفسهم: هل قدَّم السياسيون لجمهورهم خدمات وامتيازات حتى يصفقوا لهم، أليس العراقيون جميعا متضررين من فساد النخبة السياسية ومن انعدام الأمان ونقص الخدمات وأزمة السكن والبطالة والمحسوبية والرشوة والانتهازية وعصابات كاتم الصوت وسُراق المال العام؟ لا فرق بين سياسي طائفي سواء أكان شيعياً أم سنياً، فالاثنان شركاء في تخريب الوطن!
فيـا مَن كتبت "لا مكان لكم هنا" عليك أن تعرف أنك لست في جوهرك منتمٍ لهذا الوطن ولست وحدك فى هذا البلد، لا أنت ولا مَن يشبهونك، هذا، وطن من يؤمنون به، بتنوعه وتعدده، والمواطنة فيه ليست مِنَحاً توزَّع حسب الهوية، هذا وطن سيحتضِر لو الغي فيه حق الآخر، أو انتصر فيه أصحاب المظالم على مَن هم أضعف منهم.. أو قـُهر فيه البعض لصالح القطيع الطائفي، خراب البلدان ليست في الحرب التي تقتل الأرواح، بل في الحروب التي تقتل النفوس والمشاعر، وتحجب النور، ليتحول كلَّ شيء إلى ظلام مُطبق!