لا مكان بيننا للمسالمين

 

اللعنة   على من إقترع على مصائر العراقيين ، وراهن بهم عليهم . 
اللعنة ، إذ لم يعد أمام العراقي من  خيار  آخر، غير أن يصير جلادا أو يغدو ضحية .
هذه واقعة حقيقية ، لا أمل من استعادتها كلما نودي للاغتراف من نجيع الدم في بلاد الرافدين .
 حين كان  في الخامسة من العمر ، جاءني مغبر الثياب ، دامي الركبتين ، مضرج الخدين ، منتشيا  مفاخرا : إنه  تشاجر مع زميله ، شتمه وأوقعه أرضا ، وسلبه كيس الخرز والدعبل ، لأنه  عيره بلثغة في اللسان ، وحرض الصحبة ان لا يلعبوا معه ، يومها عنفته ، وأنكرت فعلته ، وصحبته لبيت الجار ليرد للصبي كيس خرزه ، ويعتذر منه ويقاسمه بالرضا حلواه ، وليعقد معه عرى صداقة لا تنفصم.
 حين بلغ السادسة ،  نحيت عنه كل أنواع اللعب الحادة والجارحة والأسلحة النارية الخلب ، وبدل رشاشات اللهب والطرقعات ،ملأت أدراج خزانته بـ ( الليكو ) و ( الميكانو ) ومكعبات الأرقام والحروف ، واستبدلت نطاق الرصاص الخلب ، بحقيبة محشوة بالأقلام الملونة والصور .
 في التاسعة ، بدأت لعبة الملاكمة تستهويه ، فمجدت أصابعه عن تلك القسوة ، وقدست كفه عن حل المشاكل بالعنف بدل التفاهم والحوار .وصحبته إلى حيث يضع أنامله على أزرار البيانو ، ليكتشف السر في همس المحبين، وصدح العنادل وهدير الشلال .
  في الحادية عشرة ، زينت له اختيار أصدقائه بالاختبار ، وقصصت عليه قصصا مسلية ودالة .
 في الثانية عشرة ، عاقبته شديدا لأنه كذب على المعلمة ، ووشى بزميله ، وحاول الغش بالامتحان .
 في الثالثة عشرة ملأت كفه بحبوب قمح وبذور ، وصحبته لحديقة الدار ليتعلم الصبر ويتعمد بالانتظار ، وليشهد معجزة البذرة التي تغدو سنبلة ، والسنابل بيادر قمح .
 في الرابعة عشرة ، وضعته على سلم المكتبة ذات الرفوف العالية ، ليتعرف على أصدقاء كبار ، علماء  ، وفلاسفة  منحوه الكثير وصاروا له أصحابا وخلانا ، وغدت صحبة الكتاب لديه ترقى على جلسة أنس عقيم وثرثرة.
 في الخامسة عشرة ، صححت له مقولة جده :: يا بني ، خير لك أن تنام مظلوما من أن تنام ظالما .ببديل : يا ولدي حاذر مرة أن تنام ظالما ، وحاذر ألف مرة أن تنام مظلوما .......
 في العشرين ، أخذت أرقب بزهو ، تلك الشجرة اليانعة ، رجل يافع ، سديد الرأي ، ينضج بالتجربة ، ويتطاول بالمعرفة ، يتغلب على الصعاب بالأناة والحكمة ، يحب بيته الصغير ، ويباهي بالانتماء للبيت الكبير ( الوطن ) لا يعتدي ويرفض الاعتداء ، لا يغش ، نظيف اليد واللسان والسريرة ، يتوق ويسعى للجمال والأمان والسلام يغمر شعاب الأرض .......
نمت بعدها رغدا ، لأصحو ذات فجر على طرق على الباب عنيف ، وأرى أناسا غرباء ، ملثمين ، يقتحمون البيت ، يحملون الهراوات والمدي  والأسلحة النارية . مزقوا الكتب ، كسروا أواني الزهر ، هشموا أنامل البيانو ، واتجهوا إلى حيث جلس ولدي  يقرأ، أوثقوا يديه بحبل ، وبدأوا يوسعونه ضربا وركلا وشتائم ، ويجرونه ... سدى حاولت منعهم ، كانوا غلاظا وولدي أهيف وأعزل إلا من المعرفة .. سدى حاولت الصراخ :: دافع عن نفسك يا ابني ، لست  أمك إن لم تدفع عن نفسك وعن بيتك كل هذا الخراب .
رمقني معاتبا ، وبسط  كفا  مكبلة ، بيضاء شديدة البياض ،مبقعة بحبر ودم ،   
حين صحوت ... كانت المخدة مبللة بالدمع وأنا في غرفة متواضعة بلندن وولدي ببغداد ،    .. وأخبار الصباح تترى : التفجيرات تتصاعد وحصيلة العملية الإرهابية بالمئات .. بينهم  جمع صبية كانوا في طريقهم للمدرسة .
أيها العالم الحر ! أما من مصير ثالث ، غير أن تكون إما جلادا أو ضحية ؟؟