واقع عند مراجعته تصاب بحالة من الحزن... بقلم:فاطمة المزروعي |
الحماية الفكرية للإبداع الإنساني حق لا يجادل فيه إلا جاهل، والإبداع الإنساني مفهوم عام، يشمل الكتابة والتأليف ويصل لما هو أبعد وأكبر وأعظم، إلى كل مخترع ومبتكر، هي حقوق لمن فكر وعمل على تحويل ما كان يعتبر ضربا من الخيال ليكون واقعا يعيشه الناس. وكم سمعنا عن منتج إنساني سواء في المجال الأدبي أو في مجالات أخرى عندما أعلن عنه وظهر للناس وحقق انتشار وقبول، فنسمع من يتباكى ويقول يا خسارة لأني فكرت بنفس الفكرة. غني عن القول أن مثل هذا الأسف لا يجدي بل ليس له موقع في عالم متحرك. هذا يقودنا للشاعر الألماني جوته، والذي عبر عن مدى الألم الذي سكن روحه بسبب أنه تجاهل أفكاره وتركها تموت، وذلك عندما شاهد ما حصل في باريس حين اخترع الأخوان مونجولفيه المنطاد الذي نجح في حمل الإنسان نحو السماء لأول مرة في تاريخ البشرية، حيث كتب بحزن بالغ: "لقد خرجت البالونات إلى الوجود وما كنت إلا قاب قوسين أو أدنى من اختراعها، وها هو الأسى يتملكني لأن الحظ جانبني فلم أكن السباق إلى ابتداعها". فالابتكار أو الاختراع لا يسجل إلا باسم من عمله عليه وأخرجه إلى الوجود، وتدوين المبتكرات والإبداعات بأسماء أصحابها هي حق مسلم به في كل زمن ومكان، لذلك نسمع بين وقت وآخر بسرقات وتتنامى إلى أسماعنا قصص عن الجاسوسية الصناعية التي تستهدف الحصول على أي مخترع قبل تسجيله وأخذ براءة اختراعه، من القصص في هذا السياق ما تعرضت له العالمة روزاليند فرانكلين، عالمة الكيمياء الفيزيائية وخبيرة التصوير الإشعاعي التي يرجع لها فضل اكتشاف البنية الحلزونية المزدوجة للحمض النووي ، الـ DNA ، وهو يعد أهم اكتشاف علمي بيولوجي في القرن العشرين، والمتهمان بسرقة أبحاثها هما واتسون وكريك، اللذان حصلا على جائزة نوبل في عام 1962 باعتبارهما أول من وصل لهذا الاختراع. أما روزليند، فقد حصلت على السرطان بسبب أشعة أكس وتوفيت في عمر السابعة والثلاثين، وتشير عدد من الكتب العلمية التي سردت قصة هذه السرقة إلى أن روزاليند التي تعتبر القادم الجديد إلى عالم البيولوجيا، هي التي توصلت إلى النتيجة الحاسمة بأن الحمض النووي يوجد بشكلين متميزين هما A و B بل وأحضرت صور حاسمة وواضحة لاكتشافها، ثم اتفقت مع زميلها - المنافس لها - على أن تدرس هي الشكل A وهو يدرس الشكل B ثم تابعا طريقهما منفصلين، وإن كنا نعرف الآن أن مجهودها واكتشافها قد تم السطو عليه، فإن هذه الحقيقة استغرقت عدة سنوات ليتم اكتشافها، وتوفيت روزاليند قبل أن تتمكن من الدفاع عن نفسها وتوضيح حتى وجهة نظرها، لكن كان التاريخ إلى جانبها وأنصفها. عن الوضع في مجال البحوث والدراسات العلمية حدث ولا حرج، خاصة في عالمنا العربي حيث فنون النسخ واللصق منتشرة بل وصل الحال إلى أن افتتاح متاجر تسمى بخدمات الطالب الجامعي أمام بوابات الجامعات ليس في بلد عربي واحد وإنما في عدة بلدان، ومن ضمن الخدمات التي تقدمها هذه المتاجر إعداد البحوث العلمية بل واختيار الموضوع وتنفيذه وفق الأسس العلمية وما على الطالب أو الطالبة إلا الدفع عند التسليم، ومن ثم يذهب للجامعة ليسلم أستاذة البحث ليمنحه الدرجة الكاملة. الصورة أيضا قاتمة عند النظر في مجال الابداع الادبي ، حيث تلفحنا عدة قصص لسرقات ليس لمقال أو لقصيدة أو لعنوان، بل سرقة كتب بأكملها أو نقل مقاطع كثيرة تمثل صلب عمل أدبي ولكي نكون أكثر وضوح وشفافية فإننا لا يمكن أن نحصر هذه الوصمة في العالم العربي فقط فهي تتكرر في كل بلد فضعاف النفوس موجودون في كل أصقاع الأرض وفي كل مجالات الحياة. بل ومن مختلف المهن وكثيرا ما سمعنا عن مسؤولين حكوميين يتقلدون أعلى المناصب الحكومية متورطين في مثل هذه السرقات، لكن العجيب أن يتم رصد "رجال دين" متورطين في سرقات أدبية ، وهم من يفترض أنهم أخذوا على عاتقهم تعليم الناس الصدق وعدم الخداع وعدم السرقة وأتباع أوامر الله ونواهيه، وغني عن القول أن من هذه النواهي عدم الاعتداء وعدم ظلم الآخرين، وهي قيم موجودة في اليهودية والمسيحية والإسلام، لكن ما هو واضح أن هذه القيم قد غابت عن عقل وضمير الحاخام الأكبر في فرنسا، جيل برنهايم، الذي يمثل أعلى سلطة يهودية هناك، فقد أعلن اعترافه بأنه سرق من فيلسوف متوفى عند تأليفه كتابه "تأملات يهودية" رغم نفيه السابق والشديد لأي اتهامات يتم توجيهها إليه بالسرقة الأدبية. الا انه أخيرا أعترف وقال:"إن السرقات الأدبية التي كشفت على الإنترنت صحيحة"، وبررها بأن من كان يقوم بعمل الأبحاث والصياغة، شاب متدرب ترك له أن يقوم بمساعدته نظرا لضيق وقته. لكن من الذي رصد هذه السرقة الأدبية، أنه موقع على شبكة الانترنت أسمه "ستراس" حيث أعلن منذ شهر مارس الماضي أن هناك تشابه مثير للريبة بين كتاب جيل برنهايم الصادر في 2011 تحت عنوان: "تأملات يهودية" وكتاب آخر تم نشره عام 1996 من تأليف الفيلسوف الراحل جان فرنسوا ليوتار بعنوان: "أمام القانون". ومنذ ذلك الحين والحديث لم ينقطع عن هذه السرقة الأدبية، حتى أعلن الحاخام اعترافه وإقراره، ولا يتوقع أن تقف القضية عند هذا الحد فمن المرجح أن تتوجه الى المحاكم. بينما اقرأ هذه القصة تذكرت أيضا قصة داعية إسلامي يقال أن احد كتبه قد وزعت أكثر من مليون نسخة، وأن كتبه تلقى رواجا شديدا وإقبال جماهيري ضخم ، المهم في الموضوع أنه اتضح أن من ضمن محتويات احد كتبه مقاطع وقصص مسروقة من كتاب آخر، لمؤلفة كانت أصدرت كتابها قبل كتاب الشيخ الداعية بعدة سنوات، الجميل في الأمر أن هذه المؤلفة لم تتنازل عن حقها وصعدت الموضوع إعلاميا وقضائيا حتى حكم لها بتعويض مالي وتم سحب كتاب الشيخ الداعية من الأسواق. من القصتين السابقتين تنبع في رأسي علامة تعجب كبيرة، فقد أفهم أن يسرق شخص لأغراض دنيوية زائلة، لكن أن يسرق أناس يتحدثون ليل ونهار بكلمة الله ويعظون الناس ويوجهونهم لأسلم الطرق للدخول للجنة والاستعداد للآخرة فإنه بلا شك بمثابة تاريخ جديد لدخول فئات وأوجه جديدة لعالم السرقات الأدبية، والتي كانتمقصورة على الانتهازيين وضعاف الضمير. أما سرقات اليوم نخبوية فيها الوزراء ورجال الدين والأكاديميون وغيرهم، لكنها تبقى سرقات. تذكرت في هذا السياق سرقة من نوع آخر لكنها تبقى سرقة وهي الحصول على شهادات عليا مثل الماجستير والدكتوراه، من جامعات وهمية أو حتى غير معترف بها، بمجرد أن تقومبتحويل مبلغ مالي تصلك شهادة جامعية بتقدير امتياز، وأنت في منزلك، والذي يتعب ويكد للحصول على شهادة تأتي أنت وتأخذ كل تعبه وجهده وعمله وتسرق منه أحلامه وطموحاته لأنك ببساطة حصلت على وظيفته، والأدهى والأمر أنك لا تجيد العمل لأنك أصلا لم تتعلم وتدرس التخصص المذكور في الشهادة، فالمعضلة من جانبين حرمان المستحق الفعلي للوظيفة وحرمان الناس والمجتمع من تطور الخدمات لأنه يوجد في هذا المنصب موظف ضعيف الضمير سارق لا يجيد العمل فيعطل المصالح ويعرقل التنمية. أنه واقع - عند مراجعته-لا يمكنك الا ان تصاب بحالة من الحزن والألم. |