قديماً، قيل "الجار قبل الدار"، توصية لحسن الاختيار، حتى لكأن الجار، بجواره؛ دار أخرى لمن أحسن جورته. بل زادها الأوصياء وضوحاً، بالقول: ليس حسن الجوار كف الأذى، بل الحُسن بالصبر على أذاه. ولعل المسألة تهون في اختيار الإنسان لجاره، لكنها ستصبح معضلة في جوار الأمم والشعوب والأوطان، وحجم المعضلة سيكون بمساحة تلك البلدان، فهل يرتحل بلد، مكرهاً، عن جواره، كارتحال مكرّهٍ عن داره؟!. وفي مثل هذا الظرف؛ لجوارنا العراقي بكل جهاته معضلات، تتراوح بين جهة وأخرى، ولعلّ ما يمرّ به البلد من تداخلات، منح لكل تلك الجهات مغنمها؛ حدّ المعلن والمدرك رسمياً وشعبياً، فالتفاعل الشعبي مع الوقائع، وما يرشح من خطط ومقاصد، أصبح كبيراً ومؤثراً وله قوة الضغط، وإن لم يكن بَعدُ صوتاً مدوياً في المحفل البرلماني، لكن السنوات القريبة القادمة، ستكشف إن هذا التأثير الشعبي المُتسع، برحابة الأمل في الأفضل، سيغيّر، فعلياً، لا السياسات مع الجوار، فحسب، بل الخرائط ذاتها، وبالمتاح من العدل الأممي، والسعي الإنساني لشعوب (تتجاور) ستدخلها تفاصيل التواصل بالصراع فيما بينها، معارك من نوع آخر، ولكن، كل شعب سيواجه ويصارع ببرلمانه وشكل حكمه، والانتصار الديمقراطي الحق، سيدوَّن ساعتها، في سجل السبق، من سيطالب برلمانه، مثلاً، بإعادة أرض حدودية مقتطعة من بلد آخر، لأن ما حصل حصل في ظرف سابق وبإرادة غير شعبية. وهذا ليس حلماً أو خرافة، بل الأمل بمن يفهم تعريف الجوار، ويدرك سرّ القول بأن من سمع النداء فهو جار..وها هو النداء باتساع الكون، وها هي الأسماع كلها في ورد واحد بفعل محاكاة العولمة، ووسائل التواصل الإنساني الجديدة. مثل هذا النداء أطلقه مزارعون في البصرة، تضرّروا إثر ترسيم الحدود العراقية مع الكويت، ولم يكن النداء موجهاً للأمم المتحدة، أو مجلس الأمن، بل إلى مجلس محافظة لم يخاطب هو الآخر دولة الكويت، عابراً حدود مسؤوليته، بل طالب الحكومة بتعويض أبناء البلد، وتسوية الخلاف بين الجارين. وحصل أن أعلنت الكويت تحويل أموال إلى صندوق الأمم المتحدة لتعويض مزارعين أقرّ مجلس الأمن بأحقيتهم بتعويضات ستسلّم إلى الحكومة العراقية لصرفها على مستحقيها. لينفذ مجلس الوزراء العراقي قراراً سابقاً بتشكيل لجنة تتولى تقدير قيم الأراضي الزراعية الواقعة ضمن المنطقة الحدودية بين العراق والكويت لتعويض المتعاقدين من المزارعين. بغض النظر عن الاعتراض المحلي العراقي على ما أصدره مجلس الأمن الدولي عام 1993 من قرار عاجل، قضى بترسيم حدود ممتدة بطول 216 كم، واستقطع مساحات واسعة من أرض مدينة البصرة ليضيفها للجانب الكويتي، لكن ما حصل من تفاعل إيجابي بين العراق والكويت عبر الحوار الأممي، وقرار مجلس الأمن الدولي الأخير، يؤكد ان هذا الجوار صار مختلفاً عن بقية الجوار.
|