صراع المعتقد في دائرة الاقناع البشري

 

 

 

 

 

فيما تحتدم الافكار في صراعها لإثبات صحتها ونفيها بواسطة المحسوس والعقلاني والقريب من الواقع لابد من الاعتراف بنسبية الافكار وخصوصا تلك التي لا تجتمع عليها جغرافية موحده فيما يعطينا التاريخ تصويرا نضالي لأجل اثباتها او نفيها وهكذا.

هنا تبدا رحلة القلق الاعتقادي عند البعض بينما يسيطر التعصب على الآخر والكفاح لأجل اتساع دائرة القبول لتلك الفكره والتي من المرجح انها تقترب منا – نحن البشر- بمقدار الانتساب الى وسط معين, وزمان معين, اكثر احتمالا من غيره, ربما كان صحيحا وربما العكس وهذا سوف يعتمد على امكانية تلك الوسائل التي ستعمل كأدلة في المحكمة التي سيكون قاضيها العقل البشري او الانسان كغاية تنتهي اليه كل الغايات.

القيم السائدة في آننا والتي يمكننا بسهوله ويسر ان نشير الى صالحها وطالحها لأننا نتبنى معيارا عقليا هو اقرب لنا في الحاضر بينما لم يكن بهذا القرب ايام كانت تلك القيم لا تستند لذات المعايير التي نركن اليها الان, وأد الاطفال, قتل الاباء المسنين, مشاركة النساء, الغزو, القرصنة الزواج من الارحام, الموت والولادة ....الخ, كل تلك المفاهيم ربما مارستها امم على انها قيم مقبولة فيما نعدها اليوم من مسلمات الرفض والانتفاء من صمودها امام مبررات الواقع والقيم الحاليه.

صراع القيم والافكار زمانيا قد يزداد قوتا وضعفا باختلاف صمودها اما الاخرى ومدى تقبلها والتسليم فيها, كما ذكرنا سلفا, ولكن يبقى ان العقل البشري في رحلة الملائمة تلك لما يستجد من وسائل تمكن العقل من قبولها بعيدا عن التعصب والفرض والتحايل للتصديق بها وحسب. وما اولائك المتعصبون الا طارئا يعطل الرحلة بينما المضي هو عنوان تلك الرحلة الأزلية. هذا فيما عرفنا خلفية الفكرة التي يتباها شخص او مجموعه تقف بالصف المؤيد او المعارض للفكر السائد; اما اذا غاب المتبني لها وكان هناك انتهاج من منشئ للفكرة معنى ذلك ان التأطير الفكري سيكون كاشفا لها ليس الا وهي هنا ستكون بمثابة الغاية التي يرومها العقل كـ(منهج) دون شعور والتي يعبر عنها في الاسلام بـ(فطرة الله) في قوله (فطرة الله التي فطر الناس عليها) وهذه الفطرة او الفكرة السليمة سوف لن يصيبها اي تشوه مالم يعترضها التعصب والفرض كما اسلفنا. ومجافاة تلك الفكرة الأصيلة (كوجود الله) يعد محاوله لإقناع العقل بالقبول الجزئي لا الكلي والذي سينتهي حالما تتغير وسائل الاقناع مع تغير الزمان.

يعبر الفيلسوف الفرنسي مونتاني عن هذه الفرضية بـ(الكبرياء) فهو يرى ان الملحد (مثلا) يظن انه يعرف كل شيء وان ما لا يطابق افكاره لا يمكن ان يكون صحيحا, وهو يحيل سوء الفهم المبني على عصبية الاعتقاد الى المبادئ التي يضعها المعتقد عن طريق وسائل الخاصة والتي حتما سيكون اغلبها غير مدرك وهو ما يقودنا الى تقديرات وتخمينات يناقض بعضها البعض والتي ستولد في النهاية اختلاف الافكار والتي ينبغي هنا ان يصار الى استقراءها في جو اقل عصبيه واكثر موضوعيه وحياديه وهذا ما اعتقده حلم تحلم به البشرية دونما تحقق.

ان رحلة الصراع الفكري هذه وموضوعة التسليم سوف تبقى الوقود الذي يسير الانسان نحو الافق الفكري دون شعور برغم قيمة التضحية التي يقدمها لقاء ذلك الافق المزعوم, والعبرة كل العبره, ان يكون الانسان مستعدا الى تقبل فكره مفادها ان الاطلاق وحده من يجلب الاختلاف الفكري ويساعد على استمراره بغض النظر عن صحته الى وقت غير معلوم.
قلنا ان تضاد المفاهيم والقيم الفكرية من خلال التعصب للفكرة المطلقة دون قبول الاخر والاستناد لأدله وبراهين قد تكون صالحه في زمن ولا تصلح لآخر, مثال ذلك, الفكري السلفي المعاصر والذي يتشدد بالفكرة الإسلامية بصورة عامه, مبتعدا عن روح الاسلام الحقيقي المتمثل بالانفتاح والانشراح على الاخر, وقبول الاخر لا يعني التسليم له, او الاتفاق والجري وراءه, بقدر معرفة الفكرة الاخرى المتوافقة ونسبة اتفاقها مع القيم الإسلامية ودرجة القرب والبعد تلك على نسق يساير الحياة ومتطلباتها وغاية ذلك الفكر كـ(دليل) ارشادي يقودنا لبر الامان بعيدا عن الجهل المفرط والاتهام بالعدمية.

ودعونا نعود مرة اخرى لمونتاني الذي يجيب على ذات التساؤل الموحي بوجود هذه الفكرة واسناده لكبرياء وادعاء المعرفة المطلقة والحق المطلق لنجده يصل الى نتيجة مؤداها: "ان ما يهم بالحياة هو ما يساعدنا على ان نعيش محتفظين بما تتطلبه منا طبيعتنا البشرية, اي (بصفائنا الداخلي), بفرحنا, بتوازننا, باعتدالنا كما فهم ذلك سقراط وابيقور. يجب علينا ان نعرف, قبل اي شيء آخر, كيف نتجنب الخطأ والادعاء الذي ينجم عن هذا الخطأ ويجعلنا نتعامى عن نقائضنا ونقسو على نقائض الاخرين; ولأجل البلوغ لهذه الحكمة, علينا ان نقيس عمق جهلنا, لأننا ان عرفنا جهلنا زدنا علما, وكان جهلنا لا مفر منه, اخف وطأه, ولكننا حينما نجعل من جهلنا علما, يصبح ضلالا خطرا. ان من يعلم انه يجهل لا يعرض نفسه للتأكيدات المتهورة, ولا يزج آراء المطلقية الجازمة, بل يردد مع سقراط "لست اعرف سوى شيء واحد, هو انني لا اعرف شيئا" ثمة جهل بدائي يسير امام العلم, وجهل آخر يأتي بعده, ويصدر عنه, كما انه يمحو ويهدم الجهل الاول, لأنه يعلمنا ان نقول (ربما) ونحتمي في حصن هذه الكلمه المنيع. ان علمنا بجهلنا هو الذي يجعلنا متواضعين ومتجاهلين" (اندريه مونتاني, فكره وفلسفته ومنتخباته, سلسلة زدني علما, ص52)

ونلاحظ من مونتاني ما يؤيد ويدعم اطراءنا الاول, وهو الرأي الاسلامي كما قلنا, فهو يشيرنا الى طبيعتنا بصفائنا الداخلي وهي مصداق للتعبير القرآني المذكور في مثالنا السابق (فطرة الله التي فطر الناس عليها) بينما يتفق بشده مع المفاهيم الاخرى ومنها الادعاء بالجهل امام الحقيقة المطلقة الوحيدة التي نعتقدها وهي (الله) جل وعلا.

من هنا يتأيد لنا بشكل جلي وواضح ان موضوعة تقبل الفكره ونفيها ينطوي تحت منظومه تحليليه تأمليه حياديه موضوعيه شموليه, لا انفراديه ولا تعصبيه تبحث عمّا يعارضها وحسب وتبتعد بشده عن التلاقح الفكري الذي سوف يقودنا لشيء جديدا ويبعد عنا التشذب الذي سوف يقودنا لتمديد الفترة المطلوبة لاكتشاف رؤيه معرفيه جديده كنتيجة لطقس الخلاف المعرفي والذي سيطمس لؤلؤة الحقيقة في صدفية لا يلتفت اليها المتخاصمون والسائرون بطريق يؤكد عمق الخلاف المعرفي والفكري الذي سوف لن يزيدنا الا بعدا وخسرانا.