دوائر حكومية كأنها إسطبلات

 

ما يدهش المرء ـــ على الرغم من إننا العراقيين يجب أن لا نستغرب بعد الآن شيئا بحد ذاته في فيما يخص البؤس و الرثاثة في العراق ــ هو وجود دوائر حكومية و كأنها عبارة عن إسطبلات من حيث غرف و أثاث و أجواء بائسة أخرى في جو من الوساخة و النفايات ، تنم عن منتهى الرثاثة و البؤس ، فلن تجد لها حتى في أكثر البلدان الأفريقية فقرا و تخلفا : غرف صغيرة و ضيقة كأقفاص وعديمة النوافذ والتهوية أو التبريد ، اللهم إلا من مروحة قديمة تخرخر بوهن معطية انطباعا و كأنها على وشك السقوط و التحطم على رؤوس الجالسين ، أما الكراسي والمقاعد المتهرئة و المتخلخلة و ذات مساند فبعضها محطمة أو منزوعة البطانة ، و بعضها الأخر تصّر صريرا مزعجا مع كل حركة يقوم بها الجالس الخائف ، و تئن بأرجلها المكسورة أو المتضعضة وهي تعطي انطباعا و كأنها موشكة على السقوط أو التحطم المفاجئ ، و بما إنها ضيقة ، نقصد تلك الغرف و سيئة التهوية ــ فأن رائحة الأجساد المتعرقة للموظفين و المراجعين الكريهة تختلط مع بعضها بعضا ممتزجة برائحة تصفع الحواس صفعا مثيرا للقرف و الاشمئزاز .. هذا ناهيك عن المرافق الصحية الطافحة دائما بمحتوياتها الكريهة و المقرفة. بينما توجد دوائر أخرى لا توجد فيها : لا كراسِ ولا مقاعد مخصصة لجلوس المراجعين ، فيتزاحم المراجعون بعضهم مع بعض أخر كتراكم و تزاحم علب سردين أو خراف مزحومة في شاحنات للنقل ، فيضطر غالبية المراجعين للانتظار خارج الغرفة و تحت أشعة الشمس المحرقة ، معانين من شتى صنوف قهر الانتظار وجحيم القيظ اللاهب ، فضلا عن احتمالات تعرضهم لعمليات انتحارية لوقوفهم متزاحمين في وسط الشارع وهو الهدف المرغوب جدا للانتحاريين ، و لكن قبل هذا و ذاك ، أي أسوأ من كل ذلك هو المفاجأة غيرة السارة إلا وهو : أن السيد المدير أو الموظف المسئول يكون قد تأخر ساعتين أو أكثر عن الدوام لقيامه بمهام ما خارج دائرته ؟!! ، أو لا يأتي إطلاقا في ذلك اليوم ، و ذلك انطلاقا من الوضع العراقي السائد و المعروف على هذا الصعيد ، و ذلك لعدم وجود حسيب أو رقيب ، و خاصة إذا كان هذا المسئول مديرا ! .. هذا إضافة إلى إيحاءات تسمعها هنا وهناك تشعرك بضرورة دفع الرشاوى لإنجاز معاملتك و إذا أبيت أن تدفع رشوة لأسباب مبدئية ، فربما يتحتم عليك الانتظار الطويل و الممل جدا أو المراجعة لمرات عديدة !!.. فمن المؤكد أن ما ذُكر من حقائق أعلاه عن الأوضاع المزرية و السائدة في بعض دوائر الدولة ، هو فيض من غيض ، كصورة واضحة وجلية تعكس ـ بشكل عام ــ حقيقة الوضع العراقي المتدهور على كل صعيد و ناحية ، و الذي تتحكم به مظاهر اللامبالاة و عدم الاكتراث من قبل المسئولين المعنيين عديمي الأهلية و الخبرة أو قناصي الفرص للإثراء السريع ، والذين ينصب جل اهتمامهم على كيفية جني الفلوس من جيوب المراجعين كرشاوى ، و ذلك عبر عملية تعقيد معاملتهم بسلسلة من مطالب بيروقراطية غير مبررة إطلاقا ، الأمر الذي يكلف المواطن مزيدا من معاناة الانتظار و المراجعة و أجور التنقل الباهظة زائدا حرق الأعصاب وتعكير المزاج و لعنة الاختناقات المرورية الممزقة للأعصاب .. نعرف جيدا أن ما نكتبه أعلاه ، و أنه سوف لن يجد أذانا صاغية أو قلوبا صافية من قبل المسئولين المعنيين بالأمر ، و ذلك لكثرة ما كُتب عنه ، ونعلم إننا أنما أو كأنما ننفخ في قربة مثقوبة ، ولكن مع ذلك فلابد من كشف الفاسدين و المتقاعسين .. فإذا لا شيء ، فعلى الأقل كضرب من تنفيس أو تلبية لنداء الضمير . و لكن الأكثر إثارة للأسى هو أنه في خضم وضراوة النهب و الفرهدة المنظمين للمال العام أن تستكثر الحكومة أو الدولة أو الوزارة المعنية بالأمر على هذه الدوائر و موظفيها أو بالأحرى على المواطن بعض الأثاث الجيد أو توفير ظروف و مستلزمات و أجواء إنسانية و حضارية ، بحيث يريح الموظف وكذلك المراجع على حد سواء .