لا اظن ان هنالك سفراً اجمل من ركوب البحر. فالبواخر تضمن لك رحلة مستقرة وكأنك في بيتك، كما توفر لك فرصة رؤية اللامحدود من الأفق حين تعتلي السطح. في الصيف الفائت كنت على متن سفينة Color Line العملاقة في سفرة بين المانيا وفنلندا. في البدء كنت وحيداً كعادتي في السفر غير ان القدر ساق لي رفيقاً فنلندياً من اصل افغاني. التقيته في مطعم الباخرة وجلسنا ندردش على طاولة الطعام. يقول صاحبي انه تعلم اللغة العربية في مدارس تحفيظ القرآن في كابول. فهو طالب علم "تارك" ومجاهد "سابق" درس علوم الدين والشريعة هناك، وشارك في "الجهاد" ضد أعداء الأسلام كما يصف. بعدما اكملنا طعامنا دعوته الى فنجان قهوة وسيجارة على سطح السفينة. شعيب (وهذا اسمه) شاب اكمل عقده الثالث يحمل الجنسية الفنلندية ويدرس الأقتصاد في جامعة هلسنكي. يقول انه سعيد في حياته ويأمل ان يصبح استاذا جامعياً. - شعيب.. شجابك لفنلندا ؟ - هابيبي.. انا كنت مجاهداً في افغانستان وحصل لي حادث غير حياتي. - اها، سولفلنا شلون بالله .. ما الذي جرى معك ؟ يقول شعيب: كنت صغيراً عندما اشتركنا في قتال مع العدو على الحدود الباكستانية، وكدت افقد حياتي حينها لكني وقعت بيد الجيش الباكستاني بعدما تركني رفاقي انزف وهربوا الى شعاب الجبال. - اي.. وبعدين ؟ - بائدين.. رقدت في مستشفى عسكري تحت رقابة مشددة، وفي المستشفى التقيت بالحاج مشرفي الذي قلب حياتي ونوّر طريقي. كان شيخاً كبيراً صاحب خبرة ودراية بالدين والدنيا. جلس معي وأفهمني ماذا يعني الله وماذا يعني الشيطان، وما الفرق بين الأيمان وبين ما كنا نفعله في خلق الله وعباده. لقد علّمني شيخي الحاج مشرفي أن الجنة لا تعني اشجاراً وانهاراً من خمر ولبن، ولا هي نادٍ ليلي يخدم فيه الولدان المخلّدون، ولا محلاً لبيع الهوى ومعرضاً لحور العين، بل هي ارفع واسمى. الجنة عند مشرفي تعني بأختصار أن تكون مع ربك في النهاية راضياً مرضياً. اما ما ذكره القرآن من اوصافٍ للجنة فلا يعدو كونه تقريباً بأدوات تستوعبها عقولنا، فنحن نفهم اللذة اكلاً وشرباً وفراشاً لا غير، كما الصغير حين نصف له كل أمر طيّب بأنه مثل الحلوى، لأن اكل الحلوى يمثل للطفل أقصى درجات اللذة. لقد خلق مني ذلك العارف انساناً آخر لذا هربت من المستشفى طمعاً في أن اعيش حياة اخرى لا كتلك التي عشتها وسط الكهوف المظلمة. خرجت وانا شعيبٌ جديد يبحث عن ارض لم تلوثها الدماء ولم تفسد جوها رائحة البارود فهداني ربي الى فنلندا. لكن فنلندا هذا البلد الباذخ الجمال لم يسلب من ايماني قيد انملة ولم يغيّر عقيدتي البتة. بل اصبحت هنا أكثر تمسكاً بديني مما كنته هناك. الى هنا انتهى كلام شعيب. اقول جميل جداً ان يكون الأنسان مستعداً لتبديل افكاره حين يجد من يدلّه على الصواب. والأجمل أن يستثمر وقته في الدراسة والتعلم كي يحقق هدفه ويصبح منتجاً في هذا العالم المستهلك "بكسر اللام" كما فعل رفيق رحلتي شعّوبي الوردة. غير أن شعيباً هذا فاجأني بأمنية طرقها على اذني. قال بالحرف الواحد انا اتمنى ان يأتي المجاهدون الى فنلندا ! - شلون شلون ؟ - نئم هابيبي.. انا اتمنى ان اقول للمجاهدين تعالوا الى فنلندا فانكم ستجدون كل ما تبحثون عنه في "جنّتكم". فهنا توجد خمور فاخرة، وفاكهة مكيّسة، وعسل "اصلي" وانهار واشجار وكل نعم الله. تعالوا الى فنلندا وستجدون ما تلهثون وراءه "الحور العين" في كل مكان، في الطرقات والمدارس والأسواق وعلى الشواطئ. هنا حور العين كأنهن اللؤلؤ المكنون يتحلّقن حول بحيرات فنلندا الساحرة. شقراوات يفترشن الرمل ينادين "هيت لك". تعالوا الى فنلندا لتدخلوا "جنتكم" دون قتل وذبح وتفخيخ. تعالوا واتركوا اهلنا بأمن وسلام. تئالوا هابيبي.. فكط تئالوا (يعني بس تعالوا) . |