الحلاج ضحية الهوس التكفيري/ 4 ... الحق و الحلول والأمتزاج بالمحبوب

 

 

 

 

 

ترك الحلاج الإيقاع يقوده نحو دليل تكفيره وإدانته ,فعبقريته رغم عدم فهم الناس لها جرفته فقال:

أنت بين الشغاف والقلبُ تجري مثل جري الدموع من أجفاني

وتحلُّ الضمير جوف فؤادي كحلول الأرواح في الأبدان.

فجاء البيت الأول هنا حانياً شفافاً رقيقاً رائعاً ذا صورةٍ فنيةٍ ساميةٍ معبرة بشفافية فريدة. يسري فيها المحبوب (الله) فيما بين القلب وما يغلفه (الشغاف). وتشبيهه إنسياب الدمع من الجفن المحتضن للعين هيّ صورة صوفية معبرة عن فكرة إمتلاء المحب بالمحبوب (الله), الذي هو حقيقة كل شيء بمعناها الواسع.لكن الحلاج بقوله كلمة (الحلول) الخطيرة التي لم تُذكر من قبل في الشعر الصوفي, أوغيره من ألوان الشعر أو الأدب وطرحها بالشكل المفاجئ, وإعادتها مرتين وتأكيد معناها في أبيات أخرى غير هيّاب أو متوجس, ولا متحسب لوقعها على أهل زمانه.ومحدودية تفهمهم للنص وتقولبهم اللا معقول على التفسير الجامد.  قد أعطى لأعداءه وخصومه من المتزمتين والجهلة فرصة النيل منه,والأيقاع به وإدانته.عندما قال:

مزجتَ روحَك في روحي كما تُمزَجُ الخمرةُ بالماءِ الزلالِ

فإذا مسّك شيءٌ مسّني فإذا أنت أنا في كل حال

وكلمة الحلول تُأَوَّل صوفياً تأويلات لا تفهمها العامة ويُكفِّرها مشايخ التكفير. ويَختم الحلاج بكلمة أشد خطراً وهيَّ (المزج) .

ثم يشبه هذا المزج بين روحه وروح المحبوب(الله) بمزج الخمر الحسيّة بالماء! .وكانت التهمة هنا هيَّ( الأدعاء بحلول الله فيه) والأمتزاج بينه وبين الله. وأثار التكفيريين أكثر قوله فإذا أنت انا في كل حال ولم يكن هذا مأرب الحرج ولا مبتغاه.وكان تفسير أعدائه الحرفي قد وجد له آذاناً صاغية من المتربصين بالحلاج,والساعين لأزاحته عن طريقهم.ليخلو لهم الجو ويُمرروا ما يريدون تزلفاً للحاكم وطمعاً بالمناصب والمال والجاه.

وقد نفى الحلاج تهمهم له هذه فقال:

من ظن أن الألوهية تمتزج بالبشرية فقد كفر. وعن الحلول يقول: إن معرفة الله هي توحيده ,وتوحيده تميزه عن خلقه,وكل ما تَصًوَّرَفي الأوهام فهو-تعالى- بخلافه,كيف يَحُلُّ به,ما منه بُدّا.

وقد وُظِفَت قناعات الحلاج في الشعر العربي المعاصر منذ ستينيات القرن الماضي في شعر عبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وأودونيس ومحمد لطفي جمعة ونجيب سرور وغُنِيت أشعاره من قبل ظافر يوسف وبشار زرقان وآخرين.

وآخر ما قال الحلاج:

نحن بشواهدك نلوذُ

وبِسَناعِزَّتكَ نسْتَضئُ

لِتُبدي لنا ما شِئتَ من شأنك

وأنت الذي في السماء عرشك

وأنت الذي في السماء إله

وفي الأرض إله..

تَجلَى كما تشاء

مثل تجليك في مشيئتك كأحسن صورة

والصورة

هيَّ الروح الناطقة

الذي أفردته بالعلم(والبيان)والقدرة

وهولاء عبادك

قد أجتمعوا لقتلي تعصُّبا لدينك

وتقربا إليك

فإغفر لهم!

فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي

لَما فعلوا ما فعلوا

ولو سترت عني ما سترت عنهم

لما لقيتُ ما لقيت

فلكَ التقدير فيما تفعل

ولك التقدير فيما تريد

وقبل قتل الحلاج و حزِّ رقبته , نظرَ  الى السماء قبل مقتله على الصليب الخشبي مناجياً ربه قائلا ما سبق.وهذا دليل قاطع على إيمان الحلاج وعدم كفره وحبه لله.ولكنْ أي إيمان إنه إيمان الفطرة والعقل لا الأيمان  المبني على الأبهام والجهل.فهل مَن قال هذا كافر؟أم إنه هوس التكفير والجهل والتزمت والتحجر العقلي؟

فلقد أُسيء فهم مقولته ((أنا الحق)) ,أي أنا الحقيقة, والمتعارف عليه أن الله هو الحقيقة المطلقة. ففُهِمت كتعبير متعاظم للذات ,بحيث أثار الشكوك بإيمانه مفسرين أقواله إدعاءاً بحلول الذات الألاهية في النفس البشرية. وأعتبروه ساحراً خطيراً وإستاء منه خصومه السياسيون وبخاصة من دوره  في خطة مرسومة لأصلاح الضرائب . ورأى رجال الدين في فكرته حول إسقاط الفرائض تعبيراً عن كفره, ودليلاًعلى إلحاده, رغم أنه ألف أروع إنشودة يمتدح فيها الرسول محمد عليه وآله أفضل الصلاة والسلام في كتاب الطواسين من سجنه.وقد أشاد كبار المتصوفين وأبدوا إعجابهم على مرِّ العصور بحبِّه المطلق لله ورسوله. وأعتُبِر الحلاج ثائراً بوجه ضيق الأفق لدى المتحجرين من رجال الدين,ممن يفسرون النصوص بجمودٍ فكري. وهو صاحب وشاهد الخبرة بالأتصال بالله تلك التجربة الروحية الحية المنبعثة عن إيمان عقلي لا نصّي. فالحلاج يرى الأيمان عقيدةً تربط بين النص والعقل , ولكنَّ  من قتل الحلاج هو الهوس التكفيري وإلغاء الرأي الآخر. هوسٌ إستمر بجنون حتى هذه الساعة,وسيستمر لوجود جهات قوية متمكنة تدعمه وتدفعه نتفيذاً لمخططاتها الجهنمية, وأوغاد مأجوريين ينفذون مآربه بإشاعة فكرالتكفير وتحليل دماء وأموال وأعراض الغير, وجهلة من المتخلفين عقلياً من الظلاميين والسوداويين فكراً.فمتى تدرك العقول أن الأسلام رحمة للعالمين؟وإن الأسلام دينٌ لكل العصور, دين يسر لاعسر,دين علم وثقافة لا جهل وجمودعقلي.دين الأيمان به, متأتٍ من الفطرة والعقل والتدبر.