اُنظر جيداً إلى وجوه متصدري السلطة في العراق من حكوميين إلى سياسيين.. تأملهم جيداً.. تمعــَّن في ملامحهم.. إنهم لا مبالون لكل ما يجري من حولهم.. هذه اللامبالاة التي تظهر على ملامح الفرقة الحاكمة هي أخطر ما في المشهد العراقي اليوم.. منذ أسابيع وأحياء كثيرة من بغداد تعيش تحت سيطرة عصابات غامضة.. فيما الحكومة وأجهزتها الأمنية تعيش في الخيال، الذي يصوِّر للبعض منهم أن الدعوة إلى الفضيلة والحشمة، يمكن أن تكون بديلا عن الأزمات الأمنية والسياسية! والآن دعونا نسأل: مَن المسؤول عن مأساة ومهزلة ما يُجرى في بعض مناطق العاصمة؟ إن المشكلة ليست في إغلاق محال أو مطاردة آيزيديين أو محاولات تهجير بعض العوائل، بل الكارثة في رؤوس قادة الحكم الذين فتحوا بفشلهم وتواطئهم وتحالفهم مع بعض الجماعات المسلحة، أرضاً للفوضى والعنف.. ولا يهم أن تقرأ الناس كل يوم حوادث من عينة خطف ثلاثة مدنيين من باب المعظم، قتل أربعة عشر شخصاً في زيونة.. ثم حوادث اعتداء على حياة الناس من خلال كمائن وسيطرات وهمية تريد أن تفرض سلطتها بقوة السلاح! لماذا يعتقد البعض أنهم في معركة نشر الفضيلة، وأن أمامهم أعداء ولابــدَّ من الانتصار عليهم وسحقهم.. لماذا يعتقد البعض أن انتصاره، هو الخير؟ لماذا اصبح الامر فقط اصدر فتوى وتوكل على الله وأظهر للناس بأنك تحمل همَّ هذا الوطن؟ وأنت خائف على مستقبل أبنائه من أن تجرفهم أهواءُ الخطيئة. وقبل أن يقول البعض لماذا تهوِّلون الأمور وتنفخون في هذه الأمور الصغيرة، أقول: ربما كنت سأتقبل الأمر وأناقشه لو ان الحكومة اصدرت بياناً تكذب فيه هذه الحوادث.. لكن الغريب إن صمت الحكومة وعنادها، يرافقه عجز أمني واضح، وفشل حكومي في معالجة أبسط مناحي الحياة، وسط كل هذه المظاهر المقلقة تستنفر الجهات الامنية قواتها لتصول صولة رجل واحد على سافرات بغداد.. ففي مشهد مثير للاشمئزاز أخبرني أحد الأصدقاء أن ضابطاً امنياً كبيراً وقف في شارع فلسطين يقدم النصح للفتيات، فحين يرى واحدة منهن سافرة يقول لها "لو تلبسين حجاب مو أحسن".. ولندع الأمن جانباً وتعالوا نتحدث في القانون ونسأل: هل المعركة الآن في العراق بين السافرات والمحجبات ام بين الدولة بمؤسساتها وعصابات الإرهاب ومافيا سرقة اموال الشعب وجيش الفساد المنتشر في كل مفاصل الحكومة.. وإذا سمحنا لرجل الأمن أو لغيره بمثل هذه التصرفات والفتاوى، فإنهم وبعد أن ينتهوا من قضية السفور، فسوف يلتفتون الى كل مواطن يحاول الحديث عن الحرية والعدالة والتنوير، والتغاضي كلياً عن محاسبة المسؤول ومراقبة أداء الجهاز الحكومي. ماذا سيقول القائد العام للقوات المسلحة عن هذه الحوادث، هل سيدرج ما جرى في شوارع بغداد على جدول إحدى جلسات السمر التي ستجمعه بالفريق قاسم عطا والقائد الميداني علي غيدان؟ في فيلم "عصابات نيويورك" لسكورسيزي نجد هذه الجملة الجوهرية لفقه موازين قوى عصابات الجريمة "اُريد القانون في يدي" هكذا يخبرنا زعيم المافيا.. واعتقد أن ثمة أكثر من سبب يجعل اهالي بغداد يتفرجون على هذا الفيلم الكبير، حيث يمكنهم ان يستخلصوا الدرس الذي يقدمه لنا ابطاله من ان صراع العصابات مع الحياة المدنية والاستقرار والرفاهية هو جزء من تحولات يفرضها الكبار وتجري في ظل رعاية كاملة من أجهزة حكومية. وسيرى المواطن المخدوع بالشعارات واللوثة الطائفية معنى خاصاً للعنف الذي يخبرنا عنه سكورسيزي، فعنده وعلى جري التقاليد الهمجية، يقطع المنتصر آذان قتلى "العدو" ويجدع أُنوفهم.. و في العراق لا حاجة الى هذه الطقوس البدائية، فالكاتم يمكن أن ينهي المشكلة في ثوانٍ، هناك يكتفون بتشويه الوجوه، وهنا يشوهون الانسان بأكمله. اليوم الكل يريد ان يخوض حرب السيطرة على الآخر، وأصبحنا نعيش في ظل خطابات موبوءة تمجد القتلة وتعــد الذبح على الهويات نضالا في سبيل ترسيخ العقيدة.. ونراهم في الوقت نفسه يلقون الخطب عن الوطنية والتلاحم ونبذ الطائفية.. والحقيقة إنهم ينظرون إلى الوطنية باعتبارها صناديق سلاح وشعارات ساذجة لا مثيل لسذاجتها إلا في بلاد الرافدين.. الكل يلقي المسؤولية على الأجندات الخارجية.. وعندما ينكشف زيف ادعائه يقول انها حرب الدفاع عن الضعفاء والمظلومين.. ولكنهم لو حكموا ضمائرهم لاكتشفوا أن المشكلة الحقيقية هي فيهم وفي عصاباتهم " الشبحية " المنفلتة التي لا رادع لها ولا دين او مذهب، وهم كما يبدو لا يريدون ان يتغيروا ولن يتغيروا.. وأن ثرثراتهم حول القيم الوطنية ليست سوى محاولات لذر الرماد في العيون، اذ أنهم مستعدون لتكرار سيناريو 2006 في كل لحظة.. وأنهم في كل يوم يعرضون فيه بضاعتهم من الجريمة، يتطلعون لمن يشتري ويدفع أكثر.. إن لم يكن بالمال فبالنفوذ والسلطة، وليس مهماً بنظرهم بعد ذلك مصائر العباد والبلاد.
|